اليوم هو الثلاثاء 29 يوليوز؛ وانا من ضمن العلماء المنضوين تحت مظلة المجلس العلمي الاعلى بالمملكة الشريفة؛ ونحضر مراسيم الولاء بعمالة المضيق يوم 30 يوليوز مع الوفود الديبلوماسية و ضيوف المملكة ؛ يوما واحدا قبل حفل الولاء الذي يجتمع فيه الاعيان و ممثلي الأقاليم و الجهات بساحة القصر الملكي العامر بتطوان يوم 31 يوليوز..
وصلت مطار ابن بطوطة بمدينة طنجة بعد الزوال ؛ وقد استغرقت الرحلة ساعة و نصف؛ كانت خفيفة على النفس؛ و ممتعة تشوقا لمقصدها؛ وهي ملاقاة السدة الشريفة مولانا امير المؤمنين..
استقبلني خارج المطار شاب تطواني لطيف و هادئ و ذو لكنة جبلية مطربة؛ كنت قد رتبت معه مسبقا تفاصيل الرحلة..
توجهنا لاقرب مطعم سمك؛ و انغمرنا في حديث جنوب - شمال؛ كأن كل واحد منا يخاطب نفسه؛ فقد صهرت توابثنا الوطنية معادننا كمغاربة ؛و اصبح المواطن المغربي ذو بنية نفسية و سوسيولوجية فريدة و متميزة ؛ تجمع بين عراقة يصونها الدين و العقيدة؛ و انفتاح تضبطه تقاليد العرف و الوالدين و الكثير من "الصواب"..
فاجأت الشاب الوسيم "يونس" عندما رويت له قصة الزواج الاول لوالدي رحمه الله و هو جندي يشتغل بثكنة مدينة تطوان خمسينات القرن الماضي؛ حيث أصيب بوعكة صحية ادخل على أثرها المستشفى؛ ليخرج من فترة العلاج بخطوبة من الآنسة الممرضة التي كانت تقوم على تمريضه؛ لقد كانت فتاة تطوانية تجمع بين جمال الجبليات و الاتيكيت الاندلسي.. لازالت صورها بلباسها التقليدي الانيق تؤتث ألبوم الصور العائلي في بيتنا .. كنت باستمرار أعجب لصنيع الوالدة ؛ كيف تحتفظ بصورة ( السيدة الأولى سابقا) !!
لقد عبر زواج والدي ذو الأصول الصحراوية "بفتاة تيطوانية" عن تلك الهوية المغربية المركبة و الفريدة التي تعبر عن ( الذات المغربية الواحدة)..
مررت بشوارع طنجة ثم تطوان واحسست بشعور يذكرني بأن هذه الأرض قد مر او عاش او سكن عليها أجدادي البيولوجيون في زمن ما ..
و أنك لست - أي أنا- لست غريبا عنها؛ فكل حبة رمل أو خصن شجرة تعرفك و تعرفه؛ و يشتاق لرؤيتك ..
وصلت اقامتي بمارتيل؛ و أديت صلواتي جمعا و تقصيرا؛ ثم أخدت حماما و بعض الأكل و خلدت للنوم استعدادا ليوم جميل ؛ كلي شوق لشهوده انه يوم الاستقبال الملكي..
توجهت صباحا الى مقر المجلس العلمي للمضيق حيث يجتمع علماء المملكة لتسلم استدعاءات الحفل و انتظار ساعة الإذن بالدخول الى ساحة الاستقبال..
توجهنا الى مكان الحفل؛ وفي الطريق تدهشك أمواج المواطنين المتوجهة للاصطفاف بجنبات الطريق التي سيسلكها الموكب الملكي المهيب؛ جميع انواع الفرق الفولكلورية و مجموعات الاهازيج الشعبية صادفتها هذا الصباح؛ إنه لشعور امبراطوري؛ أن تجد نفسك كمغربي تنتمي الى هذا النسيج الفسيفسائي من ألوان الإبداع و الفرجة ؛و الذي يعبر عن (أمة عريقة) في صناعة البهجة و الفرحة و مبدعة في تقاليد الاستقبال و الترحيب و الاحتفاء بالسلطان..أليس التبوريدة فرحة تلي العودة من المعركة مباشرة؛ إنها الرصاصة المبتسمة التي تنسخ الرصاصات العابسات.
اخذت هاتفي و سجلت العديد من المقاطع التي تتغنى بالملك و التاريخ و الجغرافيا .. معطرة الألحان بالصلاة على سيدنا رسول الله..
اخترقنا هذه اللوحات الحية من السعادة العامة والعمومية و العفوية..
ودخلنا الفضاء المخصص للاستعداد؛ و جلسنا على كراسي الانتظار المعدة للوفود والضيوف منتظرين الأذن بالدخول.. بيننا اعضاء السلك الدبلوماسي ذكورا وإناثا؛ و شخصيات تمثل جاليتنا بالخارج وعدد من شخصيات الفن والادب و السياسة و كذا الوزراء ..
فجأة تدخل القاعة لبوءات المنتخب الوطني النسوي في صف متراص ؛ ليقف الجميع ترحيبا و تصفيقا لهن؛ يدرك الجميع ما تقدمه الشهرة الرياضية من خدمات للوطن على مستويات تسويق الصورة و الهوية و الاقتدار الحضاري..الرياضة لم تعد ترفا بل قوة ناعمة في عالم اليوم..
يبدو مثير للإعجاب ، أن لحظة انتظار الإذن بالدخول الى ساحة الاستقبال لملاقاة أمير المؤمنين هي لحظة تتجلى فيها الأبعاد الثلاثة للوطنية: اللباس الابيض الموحد ؛
و هو التعبير السيميولوجي على الصفاء و التمازج..و التجمهر العفوي وهو المعبر عن المساواة الوطنية على صعيد واحد بلا حواجز.. و جمالية لحظة تلاقي مغاربة العالم..
أذن لنا بالدخول الى الخيمة المزركشة باللونين الاحمر و الأخضر و المزينة بمالذ من اطباق الحلوى و العصائر..
2- في لحظات الانتظار الاخيرة تجاذبت الحديث مع رجل مسن يقف على يميني ؛ عرفني بنفسه ممثلا لمغاربة شمال فرنسا ؛ حدثني عن إنجازات المغاربة في الغرب و عن العبقرية المغربية و القدرة على الاندماج في حضارات العالم دون المس باسس و روح الخصوصية الوطنية المغربية ؛ و حدثني عن كثير من مظاهر التعلق بالتوابث الدينية والوطنية بين ابناء الحالية هناك..
لقد كانت المفاجأة من السيدة الواقفة عن شمالي؛ وهي شابة من مدينة فاس ؛ خريجة جامعة الاخوين؛ تشتغل خبيرة "بشركة غوغل" بفرع دولة ايرلندا ؛ في تخصص الأمن السيبراني ومكافحة التجسس..تتقن عديد من اللغات.. بدأت حديثها بوصف اجتهادها لتحفيظ أبنائها القرآن الكريم.. و حدثني حفظها أحزابا من القرآن في مسجد جامعة الاخوين أثناء دراستها هناك !!!
أثنت كثيرا على مجهودات المجلس العلمي الاعلى و على دور العلماء في خدمة القرآن.. وقد جاءت الى الحفل مدعوة كممثلة للجالية المغربية بايرلاندا ؛ وهي معجبة بتسامح الدولة مع الأجانب..تحدثنا عن الخطاب الديني في الغرب؛ و عن البعثات العلمية و الوعظية التي تبعثها المملكة الى الخارج في رمضان؛ و قد عبرت عن إعجابها بالمستوى العلمي والثقافي؛ و كذا وسطية الخطاب الديني المغربي الذي يلقى تجاوبا كبيرا من طرف الدولة و الشعب الايرلنديين..
عزفت المعزوفة الملكية الجليلة بايقاعها الرهيب ليطلع علينا أمير المؤمنين بهيبته و طلعته البهية..
سوف أكرر و أقول إنه شتان بين رؤية جلالة الملك عبر الوسائط الإعلامية و بين رؤيته مباشرة؛ فبعد تقدم الشخصيات والضيوف للسلام على جلالته؛ ينزل أمير المؤمنين من المنصة ليقوم بجولة برفقة ولي العهد مولاي الحسن وشقيقه مولاي رشيد ؛ يمر جلالته على بعد متر منا؛ يصافح بعضنا احيانا و يلوح بيده الكريمة حينا؛ عندا يقابلك مباشرة و من مكان قريب؛ تتداعى عليك العديد من المشاعر و الصور و الانطباعات و الذكريات متشابكة و مشكلة حقيقة ذهنية وواقعية وتاريخية و حضارية اسمها ( الامبراطورية المغربية) .. دعوني أحاول أن التقط هذه اللحظة الرهيبة بهذه الكلمات :
هذا المار أمامك هو : حفيد سيدنا رسول الله.. أمير المؤمنين؛ قبس من سر النبوة الباقي على الارض؛ لقد تبرك الناس بجده صلى الله عليه وسلم؛ فتبرك انت بمصافحته الآن.. هو عنوان الهوية و الحضارة.. رمز الرحم و الابوة و التراحم المغربي..سليل المجاهدين الذين قاوموا كل انواع الاستعمار..امعن نظرك فيه ؛ انه يجمع بين التواضع و القرب من الناس و الرحمة و الرأفة..
هو الواقف خلف الإمام يوم الجمعة.. و الجالس أمام العالم في الدروس الحسنية في رمضان..
هو الصاعد الى الجبال عند النكبات..هو الرحالة الى أرض الله لخدمة مستقبل الوطن.. هو الخادم لكتاب الله طبعا وتوزيعا على العالمين..
هو المتأثر لحال الفقير و اليتيم و ذي الحاجة..
هو الاستمرارية.. و القوة و الطموح و الأمل..
إنه الملك محمد السادس أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين؛ الذي يمر أمامك الآن..
ينتهي الحفل.. لكن لا تنتهي ذكرياته..
ويختتم العرس الشريف بأحد أعظم المشاهد التي حضرتها و شهدتها في حياتي؛ تعطى التعليمات ؛ فتحمل أطباق الحلوى التي كانت معروضة في حفل الاستقبال ؛ ويوزعها المشرفون على التنظيم على جميع المواطنين الذين كانوا واقفين على جنبات الشوارع لاستقبال الملك ..
نحن الحاضرون بساحة الاستقبال؛ فقط ننوب عن الناس..
و "حلوى الملك" مباركة؛ لهذا توزع على الناس..كل الناس يحبون الملك، و يريدون قبسا من بركة الملك..
يختتم الحفل بوداع أمير المؤمنين؛ ونلتحق نحن بمدينة تطوان القريبة؛ لتناول الغذاء بحضرة الأمير مولاي رشيد حفظه الله..في الأخير: معنى أن يستقبلك الملك أي أن تشهد نفسك لحظة الولاء والبيعة للسلطان في الارض؛ و لكنها شهادة تكتب في السماء ( إن الذين يبابعونك إنما يبايعون الله ).