المثير أن هذه "الفضائح" لم تمس وزراء آخرين ينتمون لأحزاب شريكة في نفس الحكومة، رغم أن الواقع لا يخلو من ملفات قابلة للتسريب إن وُجدت الإرادة. لا يتعلق الأمر إذن بالغيرة على المال العام أو بشهوة المحاسبة كما يتوهم البسطاء أو يتمنى المأزومون، بل بإعادة ترتيب الطاولة: من يحق له الجلوس، ومن يجب أن يختفي أو يتقلص حضوره، ومن يصلح للمناورة ومن ينبغي التخلص منه. وحين يُختزل "الفساد" في وجهين دون غيرهما، يكون السؤال الأجدر بالطرح هو: من يملك سلطة الإخراج، ومن اختار هذا التوقيت بالتحديد؟
نعلم جيدا أن حزب الأصالة والمعاصرة لم يعد ذلك المارد الذي أراد له البعض أن يكون في لحظة ما. تراكمات التدبير، وتناقضات القيادة، وارتباك الخطاب، جعلته اليوم رقما غير منسجم مع ذاته، ومع ذلك، فإنه لا يزال يحتفظ بمواقع قوة داخل الجهاز التنفيذي، ويظل شريكا في التحالف الثلاثي الذي يواجه أزمة شرعية اجتماعية ومعنوية عميقة. ولأن الحزب، رغم ضعفه، يمتلك مفاتيح تأثير، فإن ضربه في هذه المرحلة قد لا يكون فقط بسبب أخطاء أعضائه، بل أيضا لأنه لم يعد مضمونا كما كان، ولأن صمته قد يُقرأ كمراهنة على المستقبل من خارج هذا التحالف الهجين.
الواقع أن هذه الحكومة، التي تجسد تحالفا هجينا بين المال والدين والمخزن، تعاني من تصدع داخلي، ومن انهيار السردية التي جاءت بها. ومن الطبيعي، في مثل هذا السياق، أن تبدأ الأجهزة غير المعلنة، أو مراكز القرار الخفية، في استخدام أدوات تصفية الحساب أو توزيع الرسائل على شكل تسريبات تبدو في ظاهرها أخلاقية، وفي جوهرها سياسية بامتياز. وحين لا تُعمم التسريبات على كل من يستحقها، بل تُنتقى بعناية لتصيب حزبا دون سواه، نكون أمام فعل سياسي لا أخلاقي يرتدي عباءة الأخلاق. وهنا مكمن الخطورة.
ليس الهدف هو التطهير، ولا الرغبة في المساءلة، بل خلق حالة من التشويش الموجه. فحين يتم تعميم الانطباع بأن الفساد له وجه واحد، وأنه يتجسد في وزير العدل ووزيرة الإسكان فقط، نكون أمام هندسة إعلامية لخطاب الرأي العام، هدفها خلق صورة نمطية تختزل الفشل في أسماء معينة، وتبرئ غيرها، رغم تشابه الممارسات وربما تفاقمها. هذه الانتقائية في التسريبات تؤكد أننا لا نعيش لحظة صحوة، بل نُدفع دفعا نحو إنتاج وعي زائف يعيد تلميع بعض الوجوه عبر شيطنة أخرى.
لكن، ما هو المنتظر من هذا النوع من التسريبات؟ هناك فرضية تقول إن الهدف هو تقليم أظافر حزب الأصالة والمعاصرة قبل الانتخابات المقبلة، عبر تحجيم رموزه داخل الحكومة، وتقليص حضوره الإعلامي، ودفعه نحو الاصطفاف السلبي داخل التحالف. وقد تكون هذه التسريبات جزءا من خطة أوسع لإعادة هيكلة الحقل الحزبي، بما يسمح بإعادة إنتاج واجهات جديدة أكثر انضباطا، وأقل طموحا في المساومة على السلطة أو التموقع.
وفي كل الحالات، فإن ما يقع ليس بريئا. لا الدولة في عمقها تريد حقا تجفيف منابع الريع، ولا المجتمع السياسي قادر على فرض معايير شفافة للمحاسبة. نحن فقط أمام لعبة توزيع الضجيج، والضرب تحت الحزام، وتقديم قرابين وقت الحاجة. وما دام الاستحقاق الانتخابي المقبل يقترب، فإننا سنشهد المزيد من هذه المناورات، بأشكال أكثر خبثا وأشد تأثيرا. فكلما ضعفت السياسة، تجاسر من يمارس السلطة في الظل، وكلما تراجع الوعي، تحولت الفضيحة إلى أداة للحكم، لا وسيلة للمساءلة.
وحتى لا نُخدع مجددا، علينا أن نميز بين محاربة الفساد كمطلب شعبي ومجتمعي وسياسي، وبين استعمال الفساد كذريعة لتأديب الخصوم أو لإعادة ترتيب مواقع القوة. التسريبات الأخيرة ليست سوى وجه من وجوه هذه التقنية الخبيثة التي تستهدف العقول لا الجيوب، وتعيد تشكيل الرأي العام بناء على حسابات من هم في الأعلى، لا على مصلحة من هم في القاع. لهذا، فإن الصمت عن هذا التوظيف الانتقائي للفضائح هو صمت على الجريمة، لأنه يسمح بتزييف الوعي وشرعنة اللاعدالة.
المطلوب اليوم ليس الدفاع عن هذا الحزب أو ذاك، بل المطالبة بعدالة سياسية في فضح الفساد. لأن الانتقاء، في نهاية المطاف، لا يفضح إلا نية من اختار الصمت عن الآخرين، وهو صمت لا يبرئ أحدا، بل يدين الجميع. وفي انتظار أن يُرفع الستار عن كل ملفات العبث، علينا أن نكون أكثر وعيا بأن ما يُدار في الكواليس أخطر بكثير مما يُعلن على شاشات الهواتف.