عزيزي عبد اللطيف
منذ أزيد من شهرين.. وأنا أحاول الاتصال بك عبر رقم نقالكم الذي في حوزتي... كنت قلقا عليكم رفقة أصدقائي.. بعد التهجم الظالم من أحد الزملاء.. اتصل بك أيضا إدريس القلعي ابن الأسرة الرائعة التي استضافتنا مرارا بقلبها الكبير ومسكنها الربيعي المعلق... لكن صوت العلبة اللعينة تخشب في أذني... سجلت كلمات لك...هذا المساء لوحده اتصلت مرارا برقم إذاعة طنجة المعتاد لأسأل عنك.... فقط رنين متكرر بدون جواب... فكان الخلاص أن أكتب لك هذه الرسالة...
عزيزي بنيحيى
أكتب إليك الآن، مساء ذات يوم مُشْمِشْ (جمعة 17 اكتوبر).. بجانب الصديقين علي الفلوس وعبد العزيز الخطابي... أنت تعرفهما بالتأكيد... في الحانوت الصغير الهادئ... أمام جدار التاريخ الواقف يسأل عن تاريخه.. عن زيارة عالم الآثار... كيف لم يأت بعد إلى الديار... أتت بي الوالدة الحنونة.. سلطة المكان.. دهشته الأولى... طفولة الشغب البريء... والمهرجان...
عزيزي عبد اللطيف
أتذكر مغامرتك الإعلامية البهية... عندما ركبت الطريق الطويل الطويل... المنعرجات والحفر... إشارات النسيان في المكان والزمان والإنسان... كي تنصت لتجربتنا الثقافية... تتحدى معيقات كثيرة تقنية وبشرية لثبت ثلاث ساعات مباشرة من هنا على إذاعة طنجة... وأنت تطل من شرفة نفس البيت، على جدران هذا التاريخ المقال من خريطة التنمية... لا أنسى أبدا صور ذلك العرس الثقافي الذي أطلقته قصبة بني عمار من عمق نسيانها ذات ربيع مبهر من سنة 2002... بساطة... تلقائية... محبة صوفية تتوهج بحداثتها... شيخ الملحون الجميل والإعلامي المبدع الحاج أحمد سهوم... أتعرف... لم تهز كياني قصيدة ملحون مثلما هزتني رائعته عن المهرجان في دورته الثانية.. معيقات ولكننا نعمل.. عرس ناس الغيوان المعتق تحت المطر، في حضن جمهور حي دافئ يحلم بغد جميل لكل المواطنين والأوطان... الحوار الموسيقي الساحر بين الفنانين مارك فيلا على البيانو الجوال والتهامي بلحوات على العود والكمان..
أحاول الآن ترتيب أفكاري على صوت ملائكي: "صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم"... يغني مارسيل خليفة الذي اختار الإقامة بجوارك في طنجة وقيادة مشروع تكوين موسيقي رفيع.. طوبا لك عزيزي بهذه الجورة البهية... أما أنا فيكفيني هذا الخبر المبهج وسط خراب الأخبار التي تتهاطل علينا مثل القنابل اللعينة...
عزيزي بنيحيى
لا شك أنك تنتظر أخبار القرية التي أحببت... كانت الحلقات التي خصصت على أمواج إذاعة طنجة حول القصبة ومهرجانها خلال الأشهر الأخيرة مثل كوة ضوء وسط الظلام...
لا أخفيك أيها الرائع أننا تعبنا من الانتظار. أن يتحقق حلمنا... حين تزول غمامة النسيان عن سماء قصبتنا الصغيرة... حين تتوفر للقصبة بنيات تحتية ولو بسيطة تكون جديرة بمهرجان ذي إشعاع عربي ودولي واسع...
أتدري عزيزي عبد اللطيف... مطرب الحي ما زال لا يطرب في هذه البلاد... لذلك كان ضروريا ربما أن يستمر هذا الجرح كي تأتي المفارقة مفعمة بالسخرية... فبعد أيام على صدور بيان عن أسباب تأجيل الدورة 12 من مهرجان "فيستي باز" المختلف بوفائه للارض... واحتفائه بالهامش والمهمش.. ليذهب إلى أقصى الكينونة محتفيا بحيوان جميل يتقاسم معه العمل والصبر مقابل الحكرة والظلم...
جاء الجواب من الخارج.. من الآخر... في جنيف عاصمة سويسرا اجتمعت لجنة تحكيم الجائزة العالمية الخاصة بالخيول في دورتها الثانية... لم يكن أحد يتوقع أن تؤول النتيجة جامحة إلى مهرجان يحتفي بالحمير (الآباء المساكين للخيول...) كان مبهرا بالنسبة للجنة أن تبدع جمعية قروية مهرجانا يحتفي بكائن يعلمون مدى القسوة التي يسلطها مجتمعنا عليه ضربا وتعذيبا واستغلالا بشعا وتحقيرا خطابيا يخترق للأسف كل فئات وطبقات المجتمع بما فيه النخبة... من قرية معلقة في جبل، مثقلة بالماضي والنسيان.. يصلنا صوت مغاير يقدم جوابا بسيطا على سؤال: كيف يمكن للثقافة أن تصير قوة تنموية؟.. عليها أولا ان تكون ابنة بيئتها.. وأن تقطع مع كل نخبوية قاتلة.. وتتوجه عوض ذلك إلى التحاور مع مكونات وعناصر الفضاء الذي تشتغل فيه أكان حيا أو قرية أو مدينة... ثمة دائما عناصر يمكن أن تشكل قاعدة لمشاريع مبتكرة وجريئة.. تصنع حداثتها من إنصاتها لبيئتها الأصيلة ووفائها لترابها الأول الذي يرتوي باستمرار من تيارات الفكر والإبداع والفن الآتية من كل الآفاق... لقد فرحنا كثيرا بنيل مهرجاننا لجائزة عالمية، حفزتنا كثيرا للتفكير في تنظيم الدورة 12 المؤجلة..
عزيزي عبد اللطيف
لا أود أن أعكر صفوك، لكن الواقع لا يرتفع.. وما دمت تلح لمعرفة جديد القصبة، بعد آخر زيارة لكم إليها قبل أربعة أشهر، فإنا آسف إن قلت لك أن الأمور لا زالت على حالها من التدهور.. فالطريق المؤدي إليها من مدينة مولاي إدريس، يسوء يوما عن يوم تحت العجلات الضخمة لشاحنات الشركة الإيطالية التي تستغل أحد المقالع، دون أن تنفذ ما يتضمنه دفتر التحملات من ضرورة ووجوب إصلاحها للطرق التي تخربها شاحناتها الضخمة التي لا تتوقف... أما حال مدخل القصبة فيخجلني كلما زرتها، بينما الذي يجب أن يخجل حقيقة هو رئيس المجلس القروي و"ممثلي" القصبة فيه... الناس يعانون مع الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي بفعل ترهل الشبكة التي أنشئت في سبعينات القرن الماضي... صديقتها شبكة الماء الشروب، تعرف اختناقات شبه يومية وعمليات حفر متكررة تشوه الأزقة وتقطع المرور بها، وهكذا يجني السكان نتائج الغش الذي طال عملية تجديد هذه الشبكة قبل سنوات؟؟
ثم هناك تهميش آخر بطعم حداثي، فأنا كلما زرت القصبة انقطعتُ على العالم طيلة الأيام التي أقضيها هناك، بسبب غياب أي تغطية لشبكة الإنترنيت بها.. وهذا حال شباب القرية التاريخية وطلبتها وزوارها.. ليس هناك تغطية لولوج الشبكة العنكبوتية التي أصبحت من ضرورات التواصل إن لم نقل من ضرورات الحياة نفسها في عالم اليوم..
عزيزي بنيحيى.. أنت من ضمن قلة قليلة من الإعلاميين الذين يهتمون ويتألمون لحال قصبة بني عمار.. سافرت مرارا إليها لنقل صور من معاناة سكانها.. قمت بما لم يقم به الكثيرون من أبنائها الذين أصبحوا يزورنها كسياح فقط..
أنت رائع، لذلك ما زالت قريتنا في حاجة إليك.