إدريس الفينة: كيف وضعت إيران نفسها تحت الوصاية الدولية؟

إدريس الفينة: كيف وضعت إيران نفسها تحت الوصاية الدولية؟ علي خامنئي
على مدار العقود الأربعة الماضية، ظلت إيران تحت المجهر الدولي، تخضع لعقوبات اقتصادية وسياسية متوالية، وتُعامل كحالة استثنائية في النظام الدولي. هذا الوضع لم يكن قدريًا أو مفروضًا من الخارج فقط، بل هو نتاج لمسار اختارته الجمهورية الإسلامية بنفسها، بوعي أو بتحدٍ، وهو مسار التصادم بدل التفاوض، والرهان على الردع العسكري بدل التكامل الاقتصادي. والسؤال الجوهري اليوم: هل كانت إيران مضطرة لهذا المسار؟ وهل فعلاً لم يكن أمامها سوى طريق التحدي النووي والبالستي لتأمين مستقبلها؟

العقوبات الدولية… نتيجة أم أداة حصار؟
العقوبات المفروضة على إيران ليست معزولة عن سلوكها الإقليمي والدولي. منذ الثورة الإسلامية عام 1979، اتبعت إيران سياسة خارجية مؤدلجة تقوم على مناهضة الغرب، وتصدير الثورة، ودعم الجماعات المسلحة في لبنان، واليمن، والعراق، وسوريا. هذا التوجه، إلى جانب مشروعها النووي الغامض، دفع المجتمع الدولي—وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية—إلى فرض عقوبات متصاعدة شملت قطاع النفط، النظام البنكي، صادرات الأسلحة، وعمليات الاستثمار.

وقد برّرت إيران مشروعها النووي بأنه مدني بحت، لكن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعمليات التفتيش المتكررة أظهرت عدم شفافية طهران، ووجود مؤشرات على سعيها إلى امتلاك قدرة تسليحية نووية. فُرضت عقوبات شديدة ابتداء من عام 2006 بعد فشل المفاوضات، وبلغت ذروتها في 2012–2015، مما دفع الاقتصاد الإيراني إلى الانكماش وارتفاع التضخم والبطالة.

إذن، العقوبات لم تكن مجرد أداة لردع إيران، بل أصبحت تعبيرًا عن فشل ثقة المجتمع الدولي بها، ووضعًا يُشبه “الوصاية الاقتصادية والسياسية”، دون حاجة لإعلان رسمي بذلك. أصبحت إيران تعيش تحت رقابة شبه دائمة من مجلس الأمن ووكالة الطاقة الذرية، وكل حركتها الاقتصادية تخضع لمعايير دولية دقيقة، وهو ما يقيّد سيادتها عمليًا.

هل كانت هناك بدائل لتجنب العقوبات؟
الرد الإيراني التقليدي يتلخص في أن “الغرب يعادي النظام الإسلامي” بغض النظر عن سلوك طهران، وأن العقوبات هي وسيلة استعمارية لتقييد دولة ذات سيادة. لكن هذا الطرح يتجاهل تجارب دول أخرى مثل كوريا الجنوبية، وماليزيا، وتركيا، وحتى الصين، التي تمكنت من تحقيق تقدم اقتصادي وعلمي مذهل دون الدخول في صراع مباشر مع الغرب أو امتلاك قنابل نووية.

من الناحية الاستراتيجية، كان بإمكان إيران اعتماد نموذج “الانفتاح المشروط”، كما فعلت الصين في حقبة ماو/دينغ، بحيث تبني قدراتها الذاتية بدون استفزاز المجتمع الدولي. كذلك كان بإمكانها، بدلًا من دعم أذرع عسكرية خارج حدودها، أن تركز على تطوير اقتصادها الداخلي، والرهان على القوتين الناعمة والتكنولوجية، كما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن طهران اختارت مسارًا آخر: أن تُبقي العالم رهينة لخطر “اللاحتمية”، بحيث لا يستطيع أحد الجزم إن كانت إيران ستصبح دولة نووية غدًا أم لا، وهو ما جعل مسار العقوبات حتميًا تقريبًا. هذه “اللعبة الرمادية” كانت استراتيجية مقصودة، لكن نتائجها كانت باهظة على الشعب الإيراني الذي يدفع منذ سنوات ثمن العزلة.

النموذج الياباني والكوري الجنوبي… دروس مغايرة
عند المقارنة مع كوريا الجنوبية أو اليابان، يظهر أن التقدم التكنولوجي والصناعي لا يمر بالضرورة عبر امتلاك القنبلة النووية. اليابان، بعد أن دُمّرت بالقنابل النووية، تبنت دستورًا سلميًا ورفضت عسكرة الاقتصاد. راهنت على التعليم، البحث العلمي، والصناعات الدقيقة، فأصبحت ثالث قوة اقتصادية عالميًا دون إطلاق رصاصة واحدة.

كوريا الجنوبية كانت في الستينيات أفقر من إيران، لكنها اختارت خيار التنمية المرتكزة على التصدير، والالتحاق بالاقتصاد العالمي. لم تُغامر بتطوير أسلحة نووية رغم وجود تهديد دائم من كوريا الشمالية. بل ركزت على بناء “مناعة اقتصادية” جعلتها قوة عالمية في التكنولوجيا والثقافة.

إيران، على العكس، تبنّت عقيدة “الاكتفاء المقاوم”، ظنًا أن السلاح هو الضامن للاستقلال. لكن هذا الخيار أفضى إلى تأزيم الاقتصاد، هروب الاستثمار، تدهور العملة، وانهيار الثقة بين الدولة والشعب. فهل كان امتلاك التكنولوجيا النووية أولوية في بلد يعاني من تضخم مزدوج رقمي، وشباب مهاجر، وبنية تحتية متآكلة؟

هل لا يزال هناك مخرج؟
الطريق نحو الخروج من “الوصاية الدولية” يمر عبر الاعتراف بأن القوة لا تعني فقط الصواريخ ولا المفاعلات، بل ثقة الداخل وكسب احترام الخارج. إيران تمتلك كل المقومات البشرية والعلمية لتكون قوة إقليمية إيجابية. لديها شباب متعلم، موارد طبيعية هائلة، موقع استراتيجي فريد. لكنها تحتاج لإعادة ترتيب أولوياتها، وأن تفك الارتباط بين “السيادة” و”العسكرة”.

الدخول في مفاوضات جديدة لا يعني الخضوع، بل قد يكون فعل قوة عقلانية. التخلي عن الحلم النووي العسكري والصواريخ العابرة ليس تنازلًا، بل استثمار في مستقبل غير مشروط بالعقوبات أو التهديد. فالعالم لا يعادي إيران كدولة، بل يعادي الغموض الذي يحيط بسياساتها الدفاعية والنووية.

إذا ظلت إيران تراهن على منطق التحدي بلا حساب، فإنها تُكرّس مسارًا مظلمًا لا يُفضي إلا إلى مزيد من العزلة والانهيار الداخلي. الظلم—حتى حين يصدر من دولة بحق ذاتها—يؤدي إلى نهاية محتومة. هذا الظلم يتجلى حين تُضحّي الحكومات بمستقبل الأجيال لأجل أحلام الردع، أو حين تتحول العقوبات إلى وسيلة للسيطرة السياسية الداخلية.

إيران أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن تبني نموذجًا تنمويًا مستقرًا يعيد لها مكانتها الحقيقية، أو أن تظل “تحت الوصاية”، لا لأن العالم يريد ذلك، بل لأنها اختارت موقع التهديد بدل موقع الشراكة.