جمعية الوصل الثقافي الفني بقرية با محمد: رهان على الموسيقى الأكاديمية وصون التراث الجبلي

جمعية الوصل الثقافي الفني بقرية با محمد: رهان على الموسيقى الأكاديمية وصون التراث الجبلي جانب من اللقاء
في التاسع من يوليوز 2025، ووسط أجواء تطبعها الحماسة والإيمان بقوة الثقافة والفن في تحقيق التنمية البشرية، رأت النور جمعية الوصل الثقافي الفني بقرية با محمد، كخطوة نوعية في مسار الفعل الجمعوي الهادف بالمنطقة، ومبادرة تعكس الوعي المتزايد لدى نخبة من الفنانين والمربين والحقوقيين بضرورة توطين الفعل الثقافي الجاد في عمق المغرب غير النافع، وتحرير الطاقات الفنية والإبداعية الكامنة في أوساط الناشئة. لقد جاءت هذه الجمعية استجابة لحاجة مجتمعية متصاعدة، ولرغبة مشتركة بين عدة فاعلين في ترسيخ حضور الموسيقى الأكاديمية وتعليمها على أسس علمية منهجية، عبر تأطير مؤسساتي يستجيب لمعايير الجودة ويستند إلى تأهيل علمي وتربوي حقيقي.
 
ولأن الفن لا يولد من العدم، ولأن الثقافة لا تنمو في الفراغ، فقد راهنت جمعية الوصل الثقافي الفني منذ لحظة التأسيس على رأس مال بشري مؤهل، وعلى مقاربة شمولية تعتبر الموسيقى وسيلة من وسائل الإدماج الاجتماعي والتربية على القيم. وفي هذا الإطار، تنص أهداف الجمعية بوضوح على تعليم الموسيقى الأكاديمية للأطفال والشباب، سواء الذين يتابعون دراستهم النظامية، أو أولئك الذين انقطعوا عنها في ظروف قاهرة، إضافة إلى تخصيص عناية خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة بكل أنواعها، بما يجعل من الفن وسيلة للدمج والتأهيل، لا مجرد ترف جمالي أو متعة نخبوية.
 
تقوم الجمعية على رؤية بيداغوجية دقيقة، ينهض بتنفيذها طاقم من الأساتذة والفنانين الحاصلين على شواهد معترف بها من وزارة الثقافة، يجمعون بين التكوين الأكاديمي والممارسة الفعلية، ما يعزز مصداقية هذا المشروع الثقافي الطموح. ويتقدم هؤلاء الفنان الجبلي محمد الزوبعي، رئيس الجمعية، المعروف لدى جمهور الموسيقى الجبلية كواحد من أبرز أعمدةها، وكرئيس لفرقة الراحل محمد العروسي التي حملت تراث "العيطة الجبلية" إلى أبعد الأقطار، وتمكنت من تمثيل المغرب في محافل ثقافية دولية، من بينها المشاركة المتميزة في الأيام الثقافية بحوض القوقاز بالعاصمة الأذربيجانية باكو، حيث استطاع أن يقدم نموذجا رفيعا للدبلوماسية الثقافية القائمة على التراكم الفني لا على الشعارات الفارغة.
 
الفنان الزوبعي محمد لا يمثل فقط تجربة فنية عريقة، بل يجسد أيضاً وجها من وجوه النضال الثقافي الصامت، إذ يحمل في رصيده بطاقة الفنان، وبطاقة المؤلف، وبطاقة الحقوق المجاورة والإنتاج، وهي معطيات تؤكد مكانته الاعتبارية داخل الحقل الفني الوطني، وتعزز مشروعية مبادرته في تأسيس فضاء ثقافي بقرية با محمد. ومعه يشتغل عدد من الوجوه المتميزة في ساحة الموسيقى الجادة، من بينهم الأستاذ إدريس الساكوتي، العازف المتمكن على آلة الكمان، والأستاذ محاسن، أستاذ بمعهد فاس للموسيقى، المتخصص في الصولفيج والعزف على الكمان، إلى جانب الأستاذ العلوي المدغري، أستاذ التشكيل ومدرس الاستئناس الموسيقي بالتعليم العمومي، الذي يرفد المشروع بخبرته الطويلة في مجال التأطير الفني والبيداغوجي.
 
ولا يقتصر الفريق المؤسس على العازفين فقط، بل يتعداه إلى أساتذة مختصين في البيانو والأورغ، منهم الأستاذ نسيم والأستاذ عبد الحفيظ السني، إضافة إلى الأستاذ عبد الحق الحضرمي، رئيس جمعية "أنغامي"، التي حظيت بثقة وزارة الثقافة بفضل مشروعها المتميز في الترويج للأعمال الفنية الأصيلة، وهو ما يجعل من انخراطه في الجمعية قيمة مضافة ذات أبعاد مؤسساتية وتنظيمية. أما على مستوى التفاعل مع قضايا الطفولة المهمشة، فتبرز الأستاذة جيهان، الصحفية بجريدة ورقية ومديرة مؤسسة الأطفال المتخلى عنهم بفاس، كواحدة من الوجوه المنخرطة في مشروع الجمعية، بما تحمله من خبرة ومصداقية في العمل الاجتماعي والثقافي. ولا يمكن إغفال الحضور الوازن للفنان حمودة، أستاذ الإيقاع ومغني العيطة الجبلية، الذي يشكل حلقة وصل مهمة بين جيل الرواد وجيل الشباب، إضافة إلى الناشطة الجمعوية فوزية ديدوح، الفاعلة الحقوقية بقرية با محمد، المعروفة بدفاعها المستميت عن قضايا النساء والطفولة وحقوق الإنسان في بعدها الثقافي.
 
من خلال هذه التركيبة البشرية المتنوعة، تجمع جمعية الوصل الثقافي الفني بين الفني والتربوي والاجتماعي، وتراهن على شراكات متينة مع الفاعلين الترابيين والمؤسسات المنتخبة، في أفق خلق معهد للموسيقى بقرية با محمد، يكون بمثابة أول نواة أكاديمية جهوية تُعنى بالموسيقى الجبلية والموسيقى الكلاسيكية في الآن ذاته. وفي صلب هذا المشروع يكمن هدف نبيل يتجاوز تعليم العزف والصولفيج، نحو حماية التراث المحلي، خصوصا تراث العيطة الجبلية، الذي ظل مهمشاً لسنوات رغم غناه الإيقاعي وتعبيراته الفنية المتجذرة في الذاكرة الشعبية.
 
لقد ظلت العيطة الجبلية، بصوتها الصادح وآلاتها الوترية وإيقاعاتها المنفلتة من قوالب السوق، مجالاً للتعبير عن هموم الناس ووجدانهم، وأداة للتوثيق الشفهي لوقائع التاريخ المنسي، واليوم تجد نفسها مهددة بالضياع في ظل سطوة الأغاني التجارية والتفاهة المرئية. لذلك، فإن رهان الجمعية على حماية هذا التراث لا ينفصل عن مشروع تربوي أوسع، يقوم على تربية الناشئة على الذوق الجمالي، وترسيخ القيم الوطنية، وتعزيز روح الانتماء، من خلال إعادة الاعتبار للفن المغربي الأصيل، وربطه بالتنشئة الاجتماعية والتربية على المواطنة.
 
ويؤمن مؤسسو الجمعية بأن الفن هو الجسر الذي يمكن أن تعبر عليه الأجيال نحو المستقبل، وأن الثقافة ليست ترفاً بل ضرورة، بل سلاح من أسلحة مقاومة الهشاشة والانقطاع والحرمان. لذلك، فهم يسعون جاهدين إلى عقد اتفاقيات شراكة مع الجماعات الترابية والجهات والمؤسسات المهتمة بالثقافة والفنون، بما يمكن من استدامة هذا المشروع وضمان استمراريته. ومن شأن هذه الاتفاقيات أن تفتح أفقاً أرحب أمام الجمعية لتوسيع قاعدة المستفيدين، وإنشاء بنية تحتية ثقافية قادرة على احتضان الدورات التكوينية، وتنظيم المهرجانات، وإنتاج الأعمال الموسيقية التي تعكس التنوع الفني المغربي.
 
وليس الهدف مجرد تأسيس جمعية أخرى تضاف إلى رصيد المجتمع المدني المحلي، بل خلق دينامية ثقافية حقيقية، قوامها التأطير والتكوين والحفاظ على الهوية الفنية المحلية. وقد بدأت الجمعية منذ يومها الأول في إعداد برنامج سنوي يضم ورشات في الصولفيج والعزف، ولقاءات مع فنانين ومؤطرين، ودورات تكوينية لفائدة الشباب، فضلاً عن التفكير في إنتاج عمل غنائي جماعي يمزج بين تراث العيطة الجبلية والتقنيات الموسيقية الحديثة، لتقديم صورة جديدة عن هذا اللون الفني الأصيل.
 
إن تأسيس جمعية الوصل الثقافي الفني ليس حدثا عاديا، بل يشكل لحظة مفصلية في تاريخ قرية با محمد، التي عانت طويلاً من التهميش الثقافي، ويؤشر على بداية تحول في تمثل السكان لدور الفن في التنمية المحلية، كما يعبر عن وعي جديد لدى النخب المحلية بضرورة الاستثمار في الإنسان، عبر تمكينه من أدوات التعبير الجمالي والفني، وتحريره من قيود الصمت واللامبالاة. لذلك، فإن هذا المشروع يستحق كل الدعم، ليس فقط لأنه يروم تعليم الموسيقى، بل لأنه يسعى إلى إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان في قرية مهمشة، ويؤمن بأن لكل طفل الحق في أن يعزف، ويغني، ويحلم.
 
إن نجاح هذه الجمعية رهين بمدى التفاعل الإيجابي للمؤسسات المعنية، ومدى انخراط المجتمع المحلي في الدفاع عن مشروعها، باعتباره مشروعاً مجتمعياً يهم الجميع، لا فئة دون أخرى. وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من هذه المبادرة، فهو أن الفن حين يُؤطر بعقلانية، ويُؤمن برسالته، يمكن أن يشكل رافعة حقيقية للكرامة والتنمية والانتماء.