كان الاتحاد الاشتراكي مدرسة في الخطاب السياسي النبيل، يتحدث عن الاقتصاد بلغة العدالة الاجتماعية، وعن المجتمع بلغة التحرر، وعن الدولة بلغة الإصلاح العميق، وعن الإنسان بلغة الكرامة والحرية. لم يكن الاتحاد يُستدعى في النقاش العمومي ليُثير الضحك أو التهكم، بل كان يفرض الهيبة ويستنهض الوعي. أما اليوم، فقد تحول بعض من يمثله إلى مهرجين سياسيين، يستبيحون المنابر الحزبية لتبرير المجاهرة بالفسوق، وكأن لا شيء بقي يستحق الدفاع عنه سوى "فن الشرب بهدوء"، وكأن الوطنية اختزلت في الكأس والمتعة الرخيصة.
الخطير في هذا الانحدار ليس مجرد نكتة ساقطة في لقاء حزبي، بل التصفيق الذي تلاها، والقبول الضمني لها، وتواطؤ القيادة الحاضرة، وعلى رأسها إدريس لشكر، بالصمت المريب. لقد بات الحزب في زمن "الزعيم المقاول" عاجزا حتى عن حفظ ماء وجهه، فما بالك باستعادة دوره الطليعي في قيادة الجماهير نحو أفق تحرري حقيقي. لم يعد الاتحاد يملك من اشتراكيته سوى الاسم، ولا من تاريخه النضالي سوى الشعارات المهترئة التي تعلق على الجدران كل موسم انتخابي، بينما يلهو "الإخوة" الجدد بميراث الشهداء والرموز وكأنه تركة قابلة للتفويت في المزاد.
إننا أمام صورة كاريكاتورية لحزب كان يوما يصوغ البلاغات بلغة ماركس وغرامشي، ويقارع الاستبداد ويؤطر الجماهير في القرى والمداشر والأحياء الشعبية. لقد انتهى زمن الكلمة الحرة، وجاء زمن التملق والتهريج، حيث يتحول التنظيم الحزبي إلى سيرك، والمناضل إلى نادل سياسي يقدم ما يطلبه الزعيم، ولو كان كأسا من خطابات البذاءة والانحطاط.
ما وقع في الرشيدية ليس حادثا معزولا، بل هو عرض من أعراض مرض عضال اسمه "التحلل السياسي". لقد تحوّل الحزب إلى مجرد ملحق في بورصة التحالفات الانتهازية، ومطيّة للبحث عن مناصب بأرخص الأثمان، حتى لو اقتضى الأمر استدعاء الخطاب السوقي لإضحاك الجمهور أو دغدغة عواطف الغارقين في الهزيمة.
إنها فعلا لحظة خراب، خراب الكلمة، والمعنى، والرسالة. خراب الذاكرة الجمعية حين تصبح المجاهرة بشرب الخمر مرادفًا للحداثة، والتصفيق للرداءة علامة على التطور. لقد سقط الاتحاد في شرك التهريج، ولم يعد يملك ما يقوله للشعب غير النكات السمجة، متناسيًا أن الشعوب لا تنهض بالخمر، بل بالأفكار.