خديجة الكور: خوصصة ناعمة لقطاع الصحة بإسم الإصلاح

خديجة الكور: خوصصة ناعمة لقطاع الصحة بإسم الإصلاح خديجة الكور
يتصدر ورش إصلاح المنظومة الصحية الخطاب الحكومي في المغرب، ويُقدَّم على أنه إحدى أولويات الدولة الاجتماعية التي التزمت بها الحكومة الحالية، وعلى رأسها تعميم التغطية الصحية وتحسين الولوج إلى الخدمات. غير أن الواقع الميداني كما يعيشه المواطنون، يُظهر أن هذا الإصلاح لا يعزز بالضرورة دور الدولة في الرعاية الصحية، بل يُمهّد لتحول تدريجي نحو نموذج هجين يزاوج بين العمومي والخاص، في اتجاه يُفهم منه أن الدولة تتخلى بصمت عن أدوارها الأساسية في هذا القطاع الحيوي.

وإذا كانت بعض  المؤشرات الصحية  قد تحسنت خلال السنوات الأخيرة حيث ارتفع متوسط أمد الحياة إلى نحو 77.8 سنة، وتراجع معدل وفيات الرضع والأمهات، كما تم الإعلان عن تقدم في مكافحة الأمراض المعدية. إلا أن هذه الأرقام لا تعكس الصورة الكاملة الواقع  اد لازالت فئات واسعة من المغاربة، خاصة في القرى والمناطق الهشة، تعاني من صعوبة الوصول إلى الخدمات الطبية الأساسية حيث يتعذر على المواطن أن يجد طبيبًا أو ممرضًا، أو حتى بناية صحية تستقبله.
 
وقد انتشرت خلال السنوات الماضية مراكز صحية وُصفت بـ"القرب"، لكن واقعها يكشف عن معاناة حقيقية، إذ تُركت فارغة من الأطر الطبية بسبب ضعف التخطيط و الخصاص البنيوي في الموارد البشرية، حيث لا يتجاوز المعدل الوطني سبعة أطباء لكل عشرة آلاف نسمة، مع تفاوتات صارخة بين المدن الكبرى والقرى، وبين المناطق الساحلية والمناطق الجبلية عمق نزيف الكفاءات الطبية  نحو الخارج هذا العجز، في ظل غياب سياسات فعالة لتحفيز الأطر الصحية على الاستقرار في المناطق النائية.
 
وفي خضم هذا الوضع، تم إطلاق مشروع تعميم التغطية الصحية عبر إدماج 17 مليون مستفيد سابق من نظام "راميد" في التأمين الإجباري عن المرض. ورغم أهمية هذا الورش، فإن حوالي ثمانية ملايين مغربي لا يزالون خارج التغطية، سواء بسبب هشاشة أوضاعهم الاقتصادية أو بسبب صعوبات إدارية وتنظيمية و تعقيدات مسطرية  وحتى من حصلوا على التغطية، يواجهون عراقيل متعددة تتعلق بمساطر الاستفادة، وارتفاع تكاليف العلاج الأولية، وضعف التجهيزات في المؤسسات العمومية، مما يضطرهم إلى اللجوء إلى القطاع الخاص بأسعار تفوق طاقتهم، وهو ما يُفرغ هذه التغطية من مضمونها.
 
والتحول الأكبر الذي يثير القلق، لا يقتصر فقط على مؤشرات الولوج أو التمويل، بل يكمن في تغيير نمط الحكامة نفسه. فقد بدأت الدولة في تفعيل ما يُعرف بـ"المجموعات الصحية الترابية"، وهي هيئات جهوية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وتتولى تدبير الصحة في الجهات. بهذا، لم تعد الدولة المركزية هي من تُدير بشكل مباشر المراكز والمستشفيات والموارد، بل أصبحت تكتفي بدور التنظيم والتأطير والتتبع، فيما توكل مهمة التدبير اليومي إلى مؤسسات مستقلة تُشبه من حيث الشكل والمضمون شركات عمومية.
 
هذا التغيير يحمل في طياته مؤشرات واضحة على أن الحكومة تسير في اتجاه خوصصة ناعمة للقطاع الصحي، من خلال تفويض تدريجي لمهام الدولة إلى هيئات ذات طابع عمومي ولكن بآليات تدبير خاصة. إذ لم تعد العلاقة مباشرة بين المواطن والدولة في مجال العلاج، بل أصبحت تمر عبر وسيط مؤسساتي قد لا يملك نفس الحس الاجتماعي ولا نفس الالتزام السياسي تجاه الفئات الضعيفة. بل إن المنطق الذي بدأت تتبناه هذه الهيئات يقوم على النجاعة، الأداء، التعاقد، والمردودية، وهي مفاهيم مستوحاة من التدبير الخاص أكثر من كونها تعبيرًا عن الخدمة العمومية.
 
ويتزامن هذا التحول مع توسع مطرد للقطاع الخاص الذي أصبح يستفيد من تمويلات التأمين الصحي الإجباري، دون أن يخضع لنفس الالتزامات الاجتماعية أو الرقابة العمومية. وتشير بعض التقارير إلى أن حوالي 80% من نفقات التأمين تُوجه نحو مؤسسات خاصة، مما يعني أن المال العام يُستعمل، بشكل غير مباشر، لدعم خدمات تُقدم بأسعار سوقية. في هذه المعادلة، يُصبح المواطن الحلقة الأضعف، يُطالب بالمساهمة في التمويل، لكنه لا يضمن مقابله حقًا فعليًا في العلاج الكريم.
 
ما يحدث اليوم ليس مجرد إصلاح هيكلي، بل هو انتقال جوهري في علاقة الدولة بالمواطن، حيث تتحول الصحة من خدمة عمومية مضمونة إلى سلعة تُدبَّر وفق منطق السوق. وهو ما يطرح أسئلة جوهرية حول مفهوم العدالة الصحية، ودور الدولة في حماية الفئات الهشة، وضمان تكافؤ الفرص في الحق في الحياة.

 لا يمكن لورش إصلاحي أن ينجح في ظل منظومة غير متوازنة، تغيب فيها العدالة المجالية، ويطغى فيها منطق الكلفة والعائد على منطق الكرامة الإنسانية.
 
في سياق لا يطلب فيه  المواطن سوى أن  يجد طبيبًا حين يمرض، وأن يُعالج بكرامة في مستشفى نظيف، وأن يشعر بأن دولته حاضرة بجانبه في لحظات الهشاشة والمرض. أما حين تتحول الصحة إلى رقم في تقرير، أو خدمة تتطلب القدرة على الأداء، فنحن أمام خوصصة ناعمة قد تكون أكثر خطورة من الخوصصة المعلنة، لأنها تمرّر من دون نقاش عمومي، وتُفرض على المواطن باعتبارها قدَرًا لا مفر منه.