عبد الصمد الشنتوف: حوار مع "لولو"

عبد الصمد الشنتوف: حوار مع "لولو" لولو... الكلب الذي غيّر نظرتي
ظللت طيلة عمري أحمل مشاعر العداء والنفور تجاه الحيوان، خاصة الكلاب منها. لا ريب أن ثمة عوامل بيئية وأسباب اجتماعية ساهمت في ذلك، خمنت أنها ذات ارتباط بمناخ الزمان والمكان الذي نشأت فيه. الزمان هو زمن الأبيض والأسود، أما المكان فهو حي "جنان قريوار" بالعرائش. لكن كل هذا سوف ينقلب رأسا على عقب عند زيارتي لجنوب إنجلترا.
الحكاية قديمة، وتعود لصيف سنة 1986.
حينما قدمت إلى مزرعة "ريتا" ببلدة هورسماندن، تعرفت على أستاذ مغربي اسمه تيجاني، كان يقصد إنجلترا خلال عطل الصيف من أجل العمل في حقول التفاح. سوف يسر لي فيما بعد بأن أجره كان زهيدا، لذا كان يلجأ لهذا العمل الموسمي الشاق لجني بعض المال، ثم بعد ذلك يعود لبلده لاستئناف مهنة التدريس.
تيجاني كان صديق العائلة، استطاع أن يكسب ود ريتا وينسج صداقة لافتة مع صاحبة الضيعة وكلبها الجميل لولو. كنت أظل فاغرا فاي وأنا أراه كل مساء يقوم بجولة فسحة مع الكلب الأبيض القصير بين أزقة وأحراش القرية.
لم أكن أدر وقتذاك هل كان تزلفا لريتا أم حبا ورفقا بالحيوان. لبثت حائرا لمدة أسبوعين لم أفهم شيئا. لكن في الأخير أدركت أن أستاذ اللغة الفرنسية كان فعلا ملما بثقافة الرفق بالحيوان، عكس ما كنت أحمله أنا من أفكار سلبية تجاه الكلاب. جلست فوق الكنبة أمد بصري نحو الحقول الخضراء وأفكر بعمق. راجعت نفسي فعلمت أنني مخطئ. قلت في نفسي: ما لي وما للكلاب حتى أبغضها وأنفر منها. هي لم تتصرف بشكل يؤذيني ولم تمسسني بسوء.

عندما رحل تيجاني عن الضيعة، وقفل عائدا إلى وطنه، طلبت مني ريتا أن أصطحب معي لولو في جولة فسحة وسط البلدة، مثلما كان يصنع تيجاني تماما مع الكلب المدلل، ترويحا على نفسيته التي كان يلفها بعض الضجر والفتور.
لم أتردد ولو لحظة، فقمت بتلبية طلبها على الفور. أمسكت بمقود حبل يطوق عنق الكلب ومضينا نمشي سويا. أحسست حينها أن الناس جميعا يرقبونني بنظراتهم الفضولية. ارتبكت قليلا، ليس من عادتي أن أرافق حيوانا في الشارع، وفي نفس الآن شعرت بزهو وأنا أتجول مع كلب قصير مصوف من فصيلة الكانيش. كانت أول مرة في حياتي أتجول مع كلب في فضاء مفتوح. ما أسرع ما استيقظت في نفسي ذكريات قديمة عادت بي إلى طفولة بعيدة. تخيلتني أركض وراء كلاب ضالة مستمتعا بمطاردتها. لم تكن فضاءات اللعب متوفرة أنذاك، لذا كنت أظل أركض وراء الكلاب طوال النهار. كانت تفر مني، فيما أنا كنت أتسلى بملاحقتها وضربها، معتقدا أنها كائنات أقل إدراكا وبلا أحاسيس، وعديمة الروح، وبالتالي فهي كائنات منبوذة تستحق المطاردة.
هنا في بلاد الإنجليز تغيرت نظرتي للكلاب، لذا وجدتني أرمم علاقتي بها، تصالحت معها، أصبحت أرافق صديقي لولو ونتفسح سويا وسط هورسماندن. من حين لآخر كنا نصادف بعض المارة في الطريق فنتبادل التحية "هالو"!. يستوقفونني لوهلة قصيرة. يفرحون بالكلب ويداعبونه في حبور. نستغرق في دردشة عابرة عن الطقس، عن أغاني ميك جاغر، وعن وجبات الهامبورغر. نتحدث عن أي شيء مهما كان تافها. نخوض في حديث الكلاب ثم نواصل سيرنا.
بدا لولو في انشراح واضح ومنسجما معي أشد الانسجام. كان في غاية انتشائه. لربما كنت أذكره بصديقه تيجاني الذي كان يغمره بعطف وافر ورعاية فائقة.
لولو كلب سعيد الحظ، ضحكت له الدنيا كثيرا. يقطن في بيت باذخ، ويستحم مرتين في الأسبوع. يأخذ قسطا من الراحة في صالة الضيوف، ثم يتمدد فوق أريكة فارهة حمراء تضاهي صالون الملك لويس 16. أحيانا يضطجع بين أحضان ريتا وكأنه طفل رضيع، تغدق عليه بكل ألوان الأطعمة، تأخذه عند البيطري إذا مرض، ولا تفتأ تسافر به إلى شواطئ اليونان بغية الفسحة والاستجمام. حينما يستشعران بعض الملل، يتنزهان بين أزهار ملونة وأحراش مخضرة، ثم يركضان سويا بين جنباتها. ما أن ينال منهما التعب حتى يستويان تحت شجرة إجاص مثقلة بالفاكهة.
لا تتوانى ريتا عن تنظيم حفل فاخر للولو كل عام بحضور مدعووين من كلاب القرية، فتطفئ له شمعة عيد ميلاده السعيد. هكذا يعيش لولو، كلب ولد بلمعقة من ذهب في فمه، ولم يتذوق طعم القساوة والحرمان قط.
لبثنا نخطو في تثاقل بين أرجاء البلدة، حتى بلغنا مكانا هادئا، وجلسنا تحت شجرة تفاح وارفة الظلال. لبثت أحدق في عيني لولو وأحدثه بالعربية. كنت أتواصل معه عبر الإشارات والإيماءات. شعرت كما لو كان يفهمني جيدا.
أبلغته مأساة الكلاب وحقوقهم المهضومة في بلدي، فقلت له بصوت يشوبه بعض الحزن:
- الحيوان عندنا تنتهك حقوقه على الدوام. يعتدى عليه بضرب مبرح بدون سبب، ويعاني من عنف غير مبرر.
- نظر إلي وقد انتصبت أذناه من شدة الصدمة !
- أخبرته أن الحيوانات في بلدي تلتحف السماء وتبيت في العراء، ولا حظ لها في العلاج إذا مرضت.
- ما أن سمع هذا الكلام، حتى توقف عن بصبصة ذيله وأغمض عينيه معبرا عن قلق عميق.
ثم أضفت قائلا:
- عليك أن تعلم يا لولو أنك محظوظ في هذا العالم لأنك ولدت في إنجلترا، لو كنت في المغرب لكان وضعك مأسويا للغاية، ولعشت بلا قيمة تذكر.
- تملكه بعض الحنق وأخذ يرمش عينيه، سرعان ما طفق يخبط بيده اليمنى على الأرض غير مصدق ما يسمع!
عدلت جلستي ثم استأنفت حديثي معه بصوت حازم.
- ⁠هل تعلم يا صديقي أن الناس عندنا تغيب عنهم ثقافة الرفق بالحيوان وأن جمعيات حقوق الحيوان شبه منعدمة في بلادنا. لا أدري لماذا أخفى عنك صديقك تيجاني كل هذه المعلومات ولم يخبرك بحقيقة الوضع المزري في البلد.
بالرغم من اقتراب أفول القرن العشرين، لا زالت الحيوانات عندنا تعاني الويلات في بلد قاس لا يرحم فيه الإنسان فما بالك بالحيوان.
فاجأني لولو بحركة غريبة، إذ قام بطي ذيله تعبيرا على خوف وتوتر استولى على جسده !
- أمسكته بيدي وأمسدت على ظهره كي يستعيد ثقته وسكينته ذلك أنه يسمع لأول مرة كلاما بشعا موغلا في القسوة عن أخيه الحيوان.
ما لبثت أن التفت إليه في خشوع ثم خاطبته في جد:
- انظر إلي وافتح أذنيك يا لولو، عليك أن تكون قويا، سأروي لك انتهاكات أكثر فظاعة مما سمعت !
- انبطح لولو على بطنه والتصق بالأرض، كما لو كان يهيئ نفسه لاستقبال صدمة شديدة.
- في المغرب يطلقون الرصاص الحي على الكلاب بأمر من السلطات بحجة أنها ضالة.
ما أن رنت هذه الكلمات الفظيعة في أذنيه، حتى انتصب واقفا، فصدرت من حلقه دمدمة حزينة بصوت خفيض !
ثم تابعت حديثي بصوت شبه مرتجف:
- في وطني بعض الجزارين يصطادون الكلاب، ليذبحونها ويحولونها إلى لحم مفروم، ثم يقدمونه للزبناء كوجبات سوسيس بعدما ينثرون عليها بعض البهارات.
- لم يتحمل المسكين سماع هذا الهول من الوحشية، فانخرط في نوبات بكاء ونباح معا حتى أغمي عليه !
رق قلبي لحاله المفجوع، كانت أول مرة في حياته يبكي لولو بهذه الحرقة القوية.
كاد أن يفقد عقله من شدة الحزن حين أخبرته بقطط يوضع داخل أفواهها طلاسم ووصفات سحرية، فيعمد المشعوذون إلى خياطة أفواهها وتركها تموت في الخلاء ببطء.
قلت له عذرا إن أخبرتك بكل هذه الانتهاكات البشعة في حق أخيك الحيوان، لكنها حقيقة مريرة يا لولو. ضممته الى صدري وربت على ظهره في حنو. فجأة، انزلق من بين ذراعي واتجه نحو شجرة تفاح قبالتي، طفق ينبح عليها بغضب شديد وكأنه يتخيلها أحد المشعوذين القتلة. على حين غرة، زاد غضبه اشتعالا، فجعل يلتهم أوراقها في جنون، وينهش أغصانها بشراهة. اجتاحته حالة غيظ هستيري. قرأت في عينيه تضامنه المطلق مع كل حيوان بئيس في وطني. اقتربت منه ومسحته بنظرة اطمئنان. أنبأته بأني سأطلع ريتا على كل شيء. سأحثها على مراسلة المنظمة الدولية بالرفق بالحيوان لتحيطها علما بما يحدث لها من عسف وهدر للكرامة. لربما تتحرك السلطات لاتخاذ تدابير رادعة تحمي حقوق الحيوان وتضع حدا لظلم الانسان وطغيانه الجامح.

مرت الفسحة عصيبة على قلب لولو. لم تكن كسابقاتها مع صديقه تيجاني. لكن رغم الحزن والحنق، فقد اكتسب معلومات جمة كان يجهلها عن أخيه الحيوان في الضفة الأخرى.
وما هي سوى دقائق معدودة، حتى أمسكت مقود الحبل من جديد، وقفلنا راجعين إلى الضيعة. عقب عودتنا من الفسحة صادفتنا في الطريق امرأة شقراء في عمر الخريف. كانت تسير بجانب كلب كبير الحجم من فصيلة الهسكي يشبه الذئب. حاول الكلب الضخم أن يقترب من لولو فمنعته من ذلك، انتفضت مرتعدا وتصديت له بقدمي، خفت أن يلتهم لولو ويبتلعه كقطعة ساندويش. هدأتني المرأة في رقة وقالت: دعهما يتداعبان ويتشممان بعضهما البعض، لا تقلق فكلبي وديع لطيف. بعدئذ انغمست في سرد عجيب عن حياة كلبها قائلة: كلبي من فصيلة الهيسكي الرفيع، يبلغ من العمر ست سنوات وتعود أصوله إلى أصقاع سيبريا.
أحسست بخجل يجتاحني، ولبثت أنصت إليها وأقهقه كشخص أبله. تجمدت مكاني حتى تلعثم لساني، لا أدري ما أقول وكيف أرد، ذلك أنني أفتقر إلى معرفة تفاصيل الكلاب. شرعت المرأة في شروحات طويلة ومملة عن فصيلة كلبها. ومن دون مقدمات، قاطعتها بحماس مزيف وقلت مندفعا: كلبي إسمه لولو وينحدر من اسكوتلاندا. سرعان ما اتسعت عيناها من الدهشة وتبسمت، ثم بادرتها بسؤال مباغت عن ميلاد كلبها متصنعا معرفتي بثقافة الكلاب. راقها ما أقول مخمنة أنني صاحب الكلب، وما هي سوى لحظات حتى أربكتني بسؤال لم أتوقعه: كم عمر لولو ؟
- تنحنحت مرتبكا وصرخت بقوة:
- افتح فاك يا لولو، افتح فاك !
استغربت المرأة من سلوكي الأرعن إلى حد الاستنكار، ثم أردفت قائلة: غريب غريب أمرك، لماذا تأمر الكلب أن يفتح فاه؟
- أجبتها بتلقائية: أريدك أن تتفقدي أسنانه حتى يتبين لك عمره. فردت علي في انفعال لافت: وما علاقة هذا بذاك ؟
- فأجبتها بلسان واثق : نحن في المغرب نحدد عمر الخروف عبر تفقد أسنانه. فما كان من المرأة إلا أن ضحكت في استهجان. بدا كلامي كما لو كان سخيفا، ثم ردت علي:
- لكنه كلب وليس بخروف ! على أي حال، لكل بلد ثقافته وكلابه، سعدت بالحديث معك، طاب مساؤك !
- أطلقت الشقراء ابتسامة خبيثة، ثم انصرفت عني في خطى مسرعة...

                                                                               طنجة 4 يوليوز 2025