عام خمسة عشر وأَلفين أصدر حسن أوريد رواية بعنوان: "سِنْترا" عن دار توسنا في مجموع من الصفحات بلغ في مُجمله حوالي 285 صفحة...مُنذ البدء، تَشتبك الرواية في دروب ومتاهات التنقيب في قضايا التاريخ القريب وذاكرته التاريخية الموشومة بالتشتت والاغتراب...بِمَزجٍ يَستدخل البوح مع السرد، وتَشفُّعٍّ بباروديا الهزل مع جرأة السؤال، وبِرؤية تُقرِّب العاطفة من التاريخ...تَنهمم الرواية بكشف نتوءات العقل السياسي المغربي التي يُمكن أن تَصدح بجزء من حقيقة ما جرى...
يَطرح الناقد السؤال: لماذا ابتغى أوريد في كتابة رواية من حانة "سِنترا"؟ أي إحالة رمزية تخدم رؤية اللعب بالزمن جيئةً وذهابًا؟ وأيُّ موجب لاستدعاء ذاكرة بعض المناضلين السياسيين؟ ما الذي يسوغ لعبة الاستنطاق؟ وماذا يعني انبعاث فكر علال الفاسي، المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، عمر بنجلون من داخل أصوات الرواية؟ على ماذا يُحيل تعدد الأصوات واللغات؟ وكيف نقرأ حضور شخصية الروائي في تماهٍ مع شخصية البطل عمر بنمنصور؟ أيَكون حسن أوريد هو عمر بنمنصور رجل الاستخبارات الذي اصطف إلى جانب الوطن ونأى بنفسه ضد ما كان يسمى ب Les pieds noirs؟ ثم ماذا يعني فقدانه للذاكرة في نهاية الرواية؟ واصرار الدكتورة فيفاني على متابعة حالته الصحية تَشوُّفاً في ترميم ذاكرة تسدر لا محالة نحو الضياع؟
في المُجمل، هي رواية تَنفذُ وتتسلل إلى عمق اشتغال الذاكرة والتاريخ وما بينهما من خلافات وتوافقات...تَستنطق ما فات، تكتب عن ما هو آتٍ، وتبحث عن أجوبة لجسدٍ جريح، يتعذب بين قديمٍ لم يمت وجديد لم يولد؛ عن بَلدٍ يُجَرُّ نحو التقليد حينًا، ويُجَرُّ نحو التحديث حينًا...وتُلقي بانشغالات حارقة في وجه القارئ، وتتقاسم معه المساءلات الجريئة التي يستوجبها الحضور الوجودي للمغاربة في أزمنة التشتت والضياع، فضلاً عن أنها، تقف عند جحيم "المأساة الانسانية" للفلسطينيين، وتُعاتب غربًا بدا وكأنه يتفرج مَشدوهًا أمام ذئب ينهش شاة...
لماذا لم تستطع فرنسا وقد شَقَّت الطرقات ومَدَّت السكك الحديدية وبَنت مدنا عصرية أن ترتقي بالإنسان المغربي؟ لماذا أبقت فرنسا الأنوارية هذا الإنسان محصورًا في مدينته القديمة؟ وفي تعليمه العتيق ودرجته الرابعة في القطار وثقافته القروسطوية من شعوذة وطرقية واتكالية لا ترى فرنسا الاستعمارية ضَيرًا أن تتعامل معها بَله أن تبقي عليها وترسخها؟ أين يكمن الخلل؟ هل أن فرنسا لم تَبدُل جُهدًا معرفيا يوازي الجهد المادي الذي بدلته؟ هل بدلته ووجه بالرفض؟ أم أنها كانت غير قادرة على ذلك؟ هل لأنها كانت تعتقد بأن التغيير ينبغي أن يأتي من أبناء البلد.
رواية "سِنترا" تَعبر بالزمن من دون مواربة أو ارتياب، وتفتح إمكانية تأويل وقائع التاريخ الفوري وقضاياه الحساسة... ترصد تحديثا تَمَّ من دون دليل عمل، فكانت محصلته على لسان الروائي أن "وَرثنا تحديثًا فوضويًّا"...رواية تستنطق الرموز، وتقتحم تجاويف اللاشعور، وتَصعد بالمكبوت من الدهليز نحو السطح، وتعود بالذاكرة الشعبية إلى رائدة فن العيطة الشيخة "خربوشة" في مواجهتها لسراديب الاستبداد القيدوي، كما تتغنى بمأثورات الغيوانيين "ناس الغيوان"، وتتتغنى بروائع الحسين السلاوي...وفي نَسْغِ ذلك، تُعاين مطبات المجتمع وإخفاقاته...فضاء واحد يجمع الجميع، لكن، بتمثل زمني مُشتَّت، وتذبذب تاريخي، بين ذهنيات تعيش ما قبل 1912، وذهنيات تنتمي إلى زمن الحماية، وذهنيات تحيا بزمن قبل 1999...هي استقراء لتاريخ ذهني لم يُجري بعد كتارسيسه ليبرأ من العِلل والسقم.
نقرأ في الغلاف الخلفي للرواية التعبير التالي: "سِنْترا مكان لا يتغير، وشخوص تسكن أدوارا، أو أدوار تسكن شخوصا، لتطرح قضايا ملحة، حول العدالة والذات والآخر والتحرر والتمرد، حَملها الجيل الذي قارع الاستعمار، وانسلت في غفلة من الزمن، بعد جيلين، في لُبوس الإبداع، والهزل، والفكر، عادت مع ما اكتنفها من مناطق ظِلٍّ مستترة أو مُتواطَأ بشأنها".