محمد الكيحل: الحرب الإيرانية الإسرائيلية بدأت ضرباتها بأرض الفرس وانتهت طلقاتها في أرض العرب؟

محمد الكيحل: الحرب الإيرانية الإسرائيلية بدأت ضرباتها بأرض الفرس وانتهت طلقاتها في أرض العرب؟ محمد الكيحل
توطئة:
تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم عرضة للأزمات والحروب التي لا تنتهي، حيث تواجه هذه المنطقة العديد من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية ومن أهمها مشروعات وخطط التقسيم والتفكيك؛ فلم تتعرض هذه المنطقة للمشروع الأمريكي والإسرائيلي المعروف بالشرق الأوسط الكبير كأحد مشروعات التقسيم والبلقنة لدول المنطقة العربية فقط، بل تواجه هذه المنطقة أيضا مشروعات أخرى إقليمية أشد خطورة تغلفها صبغات قومية ومذهبية ودينية مثل المشروع الإيراني والذي يهدف إلى إقامة حزام شيعي بالمنطقة.
 
تتصدر العلاقات العربية الإيرانية بمكوناتها المتباينة ومحركاتها المتناقضة أحداث الشرق الأوسط وقضاياه، حتى أنه باث من الصعب ذكر الشرق الأوسط دون الإشارة إلى التفاعلات العربية الإيرانية، ذلك أن القضايا التي تتعلق بالوطن العربي وإيران هي من بين القضايا السياسية الأكثر إلحاحا في العالم، كما يهمين الوطن العربي وإيران أيضا على الديناميكيات السياسية الإقليمية في الشرق الأوسط.
 
تؤكد الخبرة التاريخية والحقائق الجغرافية، أن الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ظل يستحوذ على اهتمام كبير من قبل الكثيرين إذ يقرون بدور إيراني إقليمي فاعل في هذه المنطقة، ولا ينحصر هذا الدور فقط في التأثير السياسي، وإنما يشمل أبعادا جيوبوليتيكية واستراتيجية بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية والدينية. ويعتبر الدور الإيراني وتأثيره في الشرق الأوسط نتاجا طبيعيا لسياسة إيران الخارجية التي يقر العديد من المحللين بغموضها وصعوبة فهمها.
 
تعتبر استراتيجية إيران ورؤيتها لمشروعها الإقليمي واحدة من أبرز المتغيرات الجدلية عند تناول التحولات الجارية بالمنطقة لا سيما في أوقات الأزمات وما تحمله من تغيرات متلاحقة كما هو الحال الآن. إذ تطرح الحرب الدائرة على الأراضي الفلسطينية والصراع الدائر بين إسرائيل وإيران العديد من التساؤلات والتكهنات بشأن مستقبل العلاقات العربية الإيرانية ومستقبل المنطقة برمتها، خاصة في ظل انهيار نظام الأمن العربي مما جعل العرب الحلقة الأضعف في معادلات الصراع الجاري حاليا بالمنطقة.
 
خلال الأعوام الأخيرة شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات كبرى مع بروز اتجاهين متضاربين في الوقت نفسه، أولهما يتعلق بخفض التصعيد في الخليج العربي، والثاني بالجولة الجديدة من القتال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تعتبر إيران أن مسار خفض التصعيد الحالي في المنطقة هو ثمرة إنجازاتها الأمنية على مدى العقود المنصرمة مما يمهد الطريق نحو مصالحة إقليمية.
 
لكن عملية الطوفان الأقصى وما تلاها من تجدد الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين والأدرع العسكرية لإيران في المنطقة وما نتج عنها من الصراع بين إيران وإسرائيل غيرت من موازين القوى لصالح إسرائيل المدعومة من قبل الولايات الأمريكية؛ فالحرب الدائرة حاليا خلطت الأوراق أمام صناع القرار في إيران ووضعت سياساتها الخارجية على المحك، وخلقت وضعا جيوسياسيا معقدا قد تجد إيران نفسها مضطرة لعقد اتفاق تاريخي مع العرب الذين يعتبرون الحلقة الأضعف في هذا المشهد. فالطرفان بحاجة إلى هذا التحالف بفعل الضغوطات التي يتعرضان لها، والتنافس الحاد بين القوى الدولية لفرض أجندتها الجيوسياسية على المنطقة، وهو ما يفرض تحالفا تاريخيا بين إيران والعرب يخلق توازنا جيوسياسيا بالمنطقة، لمواجهة التفوق العسكري والسياسة التوسعية والاستيطانية لإسرائيل التي أضحت تهدد مصالح الطرفين في المنطقة وتقود حلم إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967.
اليوم تدخل منطقة الشرق الأوسط اليوم طورا جديدا من التهديدات الجيوسياسية، مع تصاعد الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل واتساع نطاقها إلى جبهاتٍ غير تقليدية إلى حد أضحت فيه تهدد الأمن الإقليمي وتلقي بظلالها على الاستقرار العالمي. إن الوضعية المركبة والمعقدة بالمنطقة تجعلنا نطرح التساؤل التالي: هل الوضع الجيوسياسي بالمنطقة يتجه نحو ميلاد تحالف إقليمي تاريخي بين الفرس والعرب بالرغم من التناقضات التي ظلت تطبع سياساتهم الخارجية بالمنطقة؟ بصيغة أخرى هل تفرض التحولات الجيوسياسية بالمنطقة الشرق أوسطية ميلاد تحالف عربي فارسي لمواجهة التحديات المحدقة بالمنطقة وكبح جماح الغطرسة الإسرائيلية؟ أم أن الخلافات المذهبية والمصالح المتضاربة بين الطرفين قد تؤجل قيام هذا التحالف حاليا ولكنه قد يتحقق في المدى المتوسط؟
 
إن مجريات الأحداث الحالية تتطلب من النظم العربية إعادة ترتيب أولوياتها بحيث يعلو الفكر العقلاني في علاقاتها مع الآخر ليتوازن مع اعتبارات المصلحة والسياسية التي تدفعها للتمسك بتوجهات ثابتة في مواقفها من إيران عبر قدود كما هو مشهود في العلاقات المصرية – الإيرانية على سبيل المثال. فبالرغم من الخطوات الأخيرة المتفرقة التي أعطت الانطباع بإمكانية حدوث تحسن نسبي في العلاقات العربية الايرانية، لكن يبدو أن هذه العلاقات لازال يطبعها الشك وعدم الثقة المتبادلة.
 
والسؤال الأهم هنا، بعد انتهاء الصراع الدائر حاليا بين إيران وإسرائيل، هل لا زالت التحركات الإيرانية في المنطقة تشكل تهديدا لأمن ومصالح الدول العربية خاصة وأن إيران اعتمدت في سياستها الأمنية بالمنطقة على المذهبية والطائفية بوصفها ضرورة ملحة من أجل حماية أمنها القومي. وبالتالي فإن التدخل الإيراني في المنطقة يؤدي إلى الإخلال بالمنظومة الأمنية العربية والمساس بها ككل، في إطار ما يعرف بالنظام الإقليمي العربي، حيث إنه في كل واقعة من هذا النوع تثار الأسئلة عن حدود ولاية إيران على المواطنين الشيعة في البلدان العربية.
 
إذا كانت إيران التي خسرت نفوذها التقليدي في جوارها الجغرافي وامتداداته في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين تسعى جاهدة إلى تأسيس علاقة مع البلدان العربية مبنية على الثقة والمصالح الاستراتيجية المتبادلة وخاصة دول الخليج العربي بعد تداعيات عملية الطوفان والحرب الحرب الدائرة حاليا بينها وإسرائيل، فإن على العرب أن يستوعبوا التحولات العميقة الجارية بمنطقة الشرق الأوسط ويبادرون إلى عقد اتفاقية استراتيجية مع إيران تشمل مختلف المجالات وأن تكون قاعدة هذا التعاون هو جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وذلك من منطلق أن منطقة الشرق الأوسط في التفكير الاستراتيجي لها ثلاثة أعمدة أساسية تمثلها مصر وتركيا وإيران، والوفاق بين هذه الدول يفتح الباب واسعا للنهوض بالمنطقة بأسرها، في حين أن الشقاق بينها يشكل عائقا أساسيا يحول دون تقدمها واستقرارها.
 
فرغم الاختلافات القائمة بين العرب وإسرائيل فهناك الكثير ما يجمع الطرفين وفي مقدمتها قواسم التاريخ و المشترك الحضاري والجوار الجغرافي، الأمر الذي يجعل من إيران ليس عمقا حضاريا للعرب فحسب، والعكس صحيح أيضا، ولكنها تمثل عمقا استراتيجيا لهم أيضا. ويبقى السؤال مطروحا حول كيفية استثمار عناصر التاريخ والجغرافيا والدين والإرث الحضاري المشترك لصالح مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. فليس مطلوبا إنهاء كل خلافات بين العرب وإيران لكي يستقيم التعاون بينهم، ولكن المطلوب توفير قدر من الثقة بين الطرفين يسمح بإدارة الخلافات بأسلوب سلمى وحضاري حتى لا تتحول إلى صراعات. كما أن الصيغة المثلى لكبح جناح المخاوف والأطماع، سواء كانت إقليمية أو دولية، لا تتحقق إلا باستقلال وتحرير الإرادة السياسية وبتقوية الذات سياسيا واقتصاديا وعسكريا لمواجهة كل التحديات التي تواجهها الدول العربية والبلدان الإسلامية ككل.
 
لمواجهة التحديات المشتركة التي تشهدها المنطقة لا بد أن تتقاطع المصالح القومية الايرانية مع المصالح القومية العربية، فالهدف ليس معرفة حسن سياسة ايران أو سوئها ولكن الأهم هو بناء سياسة عربية براغماتية انطلاقا من تحليل علاقات القوى الاقليمية والتهديدات التي يشكلها التنافس الدولي على السيطرة على الإقليم أو اقتسام المصالح والنفوذ فيه. في هذه الحالة لن نرى في إيران تهديدات ولا مكاسب استراتيجية أو سياسية قائمة أو محتملة فحسب، وإنما سوف ننظر إليها وإلى صعودها في الإقليم كتحد حامل لمكاسب سياسية واستراتيجية وفي الوقت نفسه لتهديدات ومخاطر فعلية. وعلى العرب، لا على إيران، تقع مهمة التقليل ما أمكن من الآثار السلبية لصعود طهران والزيادة ما أمكن أيضا من فوائده على القضايا والمصالح العربية.
 
فالمصالح العربية العليا لا يخدمها فقط إبعاد النفوذ الإيراني عن الساحة العربية، ولكن يحققها أيضا إبعاد كل نفوذ أجنبي عن تلك الساحة. ولا يعقل أو يقبل أن تكون هدف الدعوة لإخراج إيران مثلا هو إخلاء الساحة للنفوذ الغربي والاختراق الإسرائيلي. ولا ينبغي أن يكون السؤال منصبا على الاختيار بين التحالف مع إيران أو التحالف مع الأمريكيين والفرنسيين والإسرائيليين، لأن ذلك سيكون في صالح التحالف الأول، على الأقل من حيث إنه سيكون سندا للعرب في سعيهم لمقاومة الهيمنة الغربية والتحدي الإسرائيلي.
 
ومن ثم، فإن السؤال المطروح هو كيفية التعامل مع إيران باعتبارها تحديا وليس تهديدا؟ وهل يمكن التوصل إلى موقف عربي من إيران يحقق المصالح العليا للأمة ويخدم العيش المشترك؟ الإشكال هو أنه حين تغيب الإرادة المستقلة ولا تكون مصالح الأمة العليا هي المنارة التي يمكن الاهتداء والاسترشاد بها، فإن الطرف العربي لا يكون مؤهلا لتحديد ما إذا كانت إيران تحديا وليست تهديدا، باعتبار أن ذلك موقف ترسمه الأطراف الأجنبية المهيمنة وليس الطرف العربي.
 
إن تجاوز الخلاف حول إيران كمصدر لتهديدات رئيسية أو كحليف محتمل لكتلة عربية تواجه تحدي السيطرة الاجنبية والاستيطان الاسرائيلي مرتبط بإمكانية بناء أجندة امنية عربية قومية. ويستدعي مثل هذا البناء ايجاد أو وجود إدراك موحد للتهديدات فحسب، وإنما أيضا رؤية مشتركة أو أسلوب موحد للرد على هذه التهديدات، وهو ما يرتبط بوجود أهداف وغايات مشتركة أيضا لدى الفاعلين. وما أجهز على الاجندة القومية العربية ليس غياب الإدراك المشترك لمصدر التهديد عموما، وإنما اختلاف أسلوب النظر للرد عليها.
 
كما يتطلب هذا الأمر إعادة بلورة مفهوم الأمن الوطني أو القومي وتمييزه عن الأمن السياسي أو أمن النظم القائمة، والتي قد يتناقض وجودها مع الأمن الوطني مفهوما على أساس تحقيق المصالح والأهداف الوطنية العليا أو الدفاع عما هو قائم منها. وهذا ما يقود إلى ضرورة تحديد الحدود التي تتقاطع فيها خيارات ايران الاستراتيجية والأمنية الاقليمية والدولية مع المصالح الأمنية العربية، مع تحديد الحالات التي تشكل فيها المصالح الإيرانية تهديدا مباشرا للمصالح العربية؟ وفي حالة الحال يجب البحث عن كيفية جعل التوافق ممكنا بين الأمن الوطني الايراني والأمن الوطني العربي أو أمن مجموع الدول العربية؟ وعن إمكانيات فتح حوار عربي ايراني بناء يقود إلى التفكير المشترك في منظومة للأمن الجماعي الإقليمي يضم إلى جانب الدول العربية وإيران تركيا باعتبارها دولة إقليمية لها نفوذ وتأثير قوي في المنطقة؟
 
خاتمة:
الواقع أن التركيب الجيوسياسي الذي ورثته المنطقة الشرق أوسطية عن الحقبة الاستعمارية هو تركيب استعماري بامتياز، أي تركيب لا منطق لها سوى خدمة مصالح الدول الكبرى الغربية الرامية إلى الاحتفاظ بنفوذها ومقدرتها على التدخل لصياغة علاقة القوى داخل المنطقة بما يضمن الحفاظ على مصالحها الحيوية بل زيادتها، سواء أكانت مصالح استراتيجية او اقتصادية أو مالية أو سياسية أو ثقافية. وقد بقيت المنطقة ولا تزال رهينة هذه الجيوسياسية الاستعمارية ولم تستطع التخلص منها أبدا. و قد أخفق العرب الذين استفزهم تنامي الاستعمار الاستبطاني في فلسطين ووحدهم في فترة سابقة ضد هذه البنية الاستعمارية الجيوسياسية في إحداث أي تغيير، وأصبحوا، بعد إخفاقهم، أكثر ارتهانا من أي فترة سابقة لهذه الجيوسياسية التي استبطنوها أو دفعوا إلى استبطانها بالقوة والضغط في أذهانهم ومخيلتهم، في مواجهة فكرة الوحدة او الاتحاد أو حتى التكتل الاقتصادي أو التعاون العربي.
 
من هنا، أصبحت مشاريع الصراع الجديدة ضد الهيمنة الغربية ومن أجل توسيع هامش مبادرة المنطقة ككل واستقلالها عن النفوذ الخارجي، المرتبطة بدول إقليمية حققت درجة كبيرة من الانجاز الاقتصادي أو التقني والعلمي، تبدو وكأنها تتقدم على حساب العرب وتعمل على مضاعفة هشاشة أوضاعهم وتدفعهم إلى التعلق أكثر بالخارج والتطلع نحو الحمايات الأجنبية.
 
إن مستقبل العرب مثلهم مثل شعوب المنطقة الأخرى، مرتبط بمقدرة جميع الاطراف الإقليمية على التفاهم من أجل تكوين منظمة إقليمية للأمن والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني، تخرج المنطقة من دائرة التنافس والتنازع الدولي على تقاسم المصالح ومناطق النفوذ فيها، وتحل التناقضات القائمة بين شعوبها وجماعاتها بالطرق السلمية، وتؤهلها لتكون مركزا للاستثمار والتطور العلمي لصالح سكانها والعالم أجمع. وهذا يعني الاستفادة من التحولات السياسية الكبرى التي مثلتها الثورة الاسلامية في ايران والديمقراطية الاسلامية في تركيا من أجل دعم الاستقرار والسلام في عموم المنطقة، بدل أن تكون هذه التحولات سببا في تأجيج النزاعات الداخلية فيها لصالح الهيمنة والنفوذ الأجنبيين.
 
ولا شك أنه تقع على العرب مسؤوليات كبيرة في تقريب أجل مثل هذا التفاهم الإقليمي الاستراتيجي المؤدي إلى إعادة بناء جيوسياسية المنطقة على أسس جديدة تقطع مع البنية الاستعمارية القائمة. فهم الذين يشكلون اليوم الضحية الرئيسية لهذه البنية الاستعمارية وشبه الاستعمارية، والغرض الرئيسي للتنافس بين الدول الإقليمية والدولية. وتحررهم من هذا المصير السيء مرتبط قبل أي شيء آخر بتحويل أنفسهم إلى فاعل إقليمي قوي، قادر على الدفاع عن مصالح العرب تجاه الفاعلين الآخرين وعلى المساهمة الايجابية، المادية والمعنوية، في بناء صرح النظام الإقليمي المستقبل الجديد.
 
لقد بدأت الحرب الإيرانية الإسرائيلية ضرباتها بأرض الفرس وانتهت طلقاتها في أرض العرب؟ وهي مؤشر ربما على بداية تحالف استراتيجي أمريكي إسرائيلي يحفظ مصالحهم المتبادلة ولو على حساب المصالح القومية العربية؟ فهل ينهض العرب من سباتهم العميق؟ أم تنطبق عليهم المقولة المشهورة: لقد عودنا العرب دائما في استغلال الفرص لإضاعة الفرص؟
 
محمد الكيحل، أستاذ  باحث بالمعهد الجامعي للدراسات الافريقية بجامعة محمد الخامس بالرباط
رئيس مركز إشعاع للدراسات الجيوسياسية والاستراتيجية