في ظل اشتداد التوتر بين إيران وإسرائيل، تعود منطقة الشرق الأوسط إلى واجهة الأحداث بصفتها فضاءً دائم التوتر، حيث تتقاطع الحسابات الجيوسياسية بالمخيّال الجمعي، وتتداخل المصلحة بالهوية، والبراغماتية بالوجدان. المغرب، على غرار باقي دول المنطقة، يجد نفسه أمام هذا الصراع لا كفاعل مباشر بالضرورة، ولكن كجسم اجتماعي يتفاعل معه عبر شبكة كثيفة من الانفعالات والمواقف والانقسامات.
الموقف المغربي من هذا الصّراع لا يمكن اختزاله في القرارات الرسمية للدولة أو في اصطفافها الدبلوماسي. فهناك انقسام واضح بين خطاب رسمي براغماتي يراعي موقع المغرب الإقليمي وسعيه لتثبيت سيادته على صحرائه، وبين وجدان شعبي ما زال مشدودًا إلى قضايا الأمة الإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بل ويجد في إيران، رغم التّباعد المذهبي، طرفًا “ممانعًا“ في مواجهة ما يعتبره “تحالفات التطبيع“.
ما يبدو كاختلاف سياسي هو في العمق اختلاف سوسيولوجي مركّب، تحكمه محدّدات الهوية والانفعال والمصلحة.
فالذي يجب التركيز عليه، هو أن إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، فرغم التّباين العقائدي بينهما فإن كليهما يدافع عن مصالحه الوطنية بواقعية سياسية صرفة. إسرائيل تسعى لتعزيز وجودها الجغرافي والسّياسي في المنطقة، بينما تعمل إيران على توسيع نفوذها عبر دعم حلفاء استراتيجيين، بما في ذلك بعض الجماعات في شمال إفريقيا.
من هذا المنطلق، تتحرك الدولتان من منطق “عقلانية الغاية“ التي حدّدها عالم الاجتماع ماكس فيبر، حيث تُقدّم المصالح الوطنية فوق أي اعتبارات إيديولوجية أو دينية.
أيّ مصلحة وأيّ انقسام وما مآل الهوية؟
منطق المصلحة الذي يحكمهما، يظهر تعقيدات كبيرة على مستوى الهوية السّياسية والاجتماعية داخل المغرب. فالخوف من النّفوذ الإيراني يرتبط بالخوف من زعزعة الاستقرار الداخلي، بينما تُطرح مسألة العلاقة مع إسرائيل ضمن نقاشات متّصلة بالذاكرة الجماعية والتراث الثّقافي اليهودي المغربي، دون نسيان التّخوف الكبير من المدّ الصهيوني في المنطقة وما خلّفه من ردود افعال انفعالية. فالهويات المركبة في المغرب جعلت المواقف المغربية تتوزع بين العاطفة والخوف من الآخر.
هنا يأتي دور الهوية المركّبة كما يشرحها عالم الاجتماع ستيوارت هول، حيث لا يمكن فهم هذه التوترات إلا عبر رؤية متداخلة للهويات الدينية، والسياسية، والثقافية.
فوفق ستيوارت هول، الهوية ليست جوهرًا ثابتًا، بل سيرورة تتشكل عبر تفاعل الذّات مع سياقاتها الثقافية والسّياسية. المغاربة اليوم يعيشون تمزّقًا بين انتمائهم إلى “أمّة متخيّلة” إسلامية – كما يصفها بنديكت أندرسون – وولائهم لدولة وطنية ذات أولويات واقعية. هذا التّمزق لا ينتج فقط عن فجوة بين الدولة والمجتمع، بل أيضا عن تصدعات داخل الذات الفردية، التي تجد نفسها ممزقة بين مرجعيّتين، كلّ واحدة تطالب بولاء مطلق.
هذا الانقسام يُعاد إنتاجه داخل الفضاءات الاجتماعية المتنوّعة. فحسب بيير بورديو، الفعل الاجتماعي محكوم بـ “الهابيتوس“، أي تلك البنى الذهنية والوجدانية المتجذّرة في التربية والطبقة والخبرة. وفي هذا السّياق، نجد أن المواقف من الحرب الإيرانية-الإسرائيلية تتفاوت بتفاوت الرّأسمال الثّقافي والديني للفرد. فالفئات الحضرية المتعلّمة غالبًا ما تميل إلى تفهّم منطق الدولة الواقعي، بينما تتمسك الفئات الشّعبية والمحافظة بسرديات المقاومة والولاء الديني.
ويزداد هذا التّعقيد في ظل ما يسميه زيغمونت باومان بـ “الحداثة السّائلة“، حيث تتحوّل المواقف إلى ردود فعل آنية تتشكل تحت ضغط الصّورة والعاطفة، أكثر مما تتأسّس على تحليل عقلاني. فالفرد المغربي، في ظل الإعلام الرّقمي، لم يعد متلقّيًا للمعلومة فقط، بل أصبح جزءًا من آلية إنتاج الانفعال، عبر مشاركته اليومية في الحروب الرّمزية على وسائل التّواصل الاجتماعي. هنا يصبح الطّفل الفلسطيني في غزة أقوى من كلّ التّحليلات السّياسية، وتتحوّل الحرب إلى مشهد وجداني يحدد المواقف بناءً على لحظة تأثير واحدة.
ليست المسألة إذن خلافًا سياسيًا بقدر ما هي مرآة لتحولات عميقة في بنية الوعي الجمعي. فالمواقف تجاه هذا الصّراع ليست فقط مواقف خارجية، بل تحمل في طيّاتها تعبيرًا عن قلق داخلي: قلق من ضياع الانتماء، من انفراط المرجعيات، ومن هيمنة منطق المصلحة الباردة على حساب الذّاكرة الوجدانية والدينية.
ما يكشفه هذا الانقسام المغربي، هو غياب التّأطير السّياسي والفكري القادر على تحويل الانفعال الشّعبي إلى طاقة نقدية بناءة. فبدل أن نرى نقاشًا عموميًا ناضجًا، نرى انزياحًا نحو الشّعبوية، حيث تختزل المواقف في ثنائيات الخير والشرّ، والخيانة والولاء، دون المرور من عتبة التّحليل المعقّد الذي يسائل المنظّمات الدولية والقانون الدولي وحقوق الانسان.
كيف نفهم الموقف المغربي؟
في المحصّلة، لا يمكن فهم الموقف المغربي من الحرب الإيرانية-الإسرائيلية دون العودة إلى البنية الداخلية للمجتمع، إلى ما يسكنه من توترات هوياتية، ومخاوف سياسية، وتمزّقات وجدانية، وصراعات مصالح لا تُقال دائمًا بصيغة مباشرة. إنها لحظة كاشفة لما يسكن الذّات المغربية من صراعات صامتة، ولما تحتاجه من إصغاء فكري حقيقي، يعيد ربط السّياسة بالعاطفة، والواقعية بالقيم، والانتماء بالنّقد.
لعلّ فهم العلاقة بين إسرائيل وإيران من منظور المصلحة والتّنافس الإقليمي يساهم في فك تعقيدات المشهد المغربي. كما أن التّعاطي مع هذه الملفات يجب أن يكون مبنيًا على وعي سياسي عميق وتحليل موضوعي بعيدًا عن الانفعالات العاطفية أو الخطابات المبسّطة التي تراعي المصلحة المادية دون الجانب الانساني.
في النّهاية، يبقى المغرب في حاجة إلى استراتيجية واضحة تُعزّز وحدته وتوازن بين مختلف الأبعاد الدينية، والثقافية، والسّياسية داخليًا وخارجيًا، لكي يواجه تحديات النّفوذ الإقليمي بفعالية.