محجوب البرش السباعي: لاجئون أم محتجزون؟.. سجال خطابي في سجن بلا قضبان

محجوب البرش السباعي: لاجئون أم محتجزون؟.. سجال خطابي في سجن بلا قضبان محجوب البرش السباعي

أثارت إحدى الندوات التي نظمها حزب وطني حول قضية الصحراء المغربية، نقاشا حادا حول المصطلحات والتوصيفات المعتمدة في الخطاب السياسي والإعلامي المغربي تجاه البوليساريو وأتباعها في مخيمات الرابوني بتندوف. فعلى الرغم من شيوع استخدام كلمات مثل "المرتزقة" لوصف تنظيم البوليساريو، و"المحتجزين" للإشارة إلى الوضعية الإنسانية لسكان المخيمات، فإن هذه التوصيفات، وإن كانت مقبولة في السياق المغربي الرسمي، فإنها لا تلقى قبولا عند بعض الأصوات الصحراوية الوحدوية داخل المغرب التي تدعو إلى مراجعة أدوات الخطاب وتعابيره.

 

لا يعد هذا الخلاف مجرد سجال لغوي أو اصطلاحي، بل هو صراع خطابي عميق حول الشرعية والتحكم في السرديات، تغذيه رهانات إقليمية تتداخل فيها المصالح الجيوسياسية للجزائر، التي تتبنى خطابا سياسيا وإعلاميا صداميا، نجد صداه في مفردات ومصطلحات جبهة البوليساريو منذ سبعينيات القرن الماضي. إن التبعية العضوية لتنظيم البوليساريو للنظام الجزائري و تماهي خطابيهما، هو ما يفسر  اعتماد المغرب لمصطلح "المرتزقة" لوصم القيادة السياسية والعسكرية للجبهة على الخصوص، في إشارة إلى ارتهانها لأجندة خارجية و غياب شرعيتها و استقلاليتها، لأنهم مجرد أدوات تنهل من المحبرة الجزائرية في سكونها و حركيتها، و في صمتها و صخبها. وفي المقابل، يصف المغرب باقي سكان المخيمات بمصطلح "المحتجزين" لأنهم وجدوا مصيرهم مرتهنا لدى الطغمة العسكرية الجزائرية و البوليساريو منذ أكثر من خمسين سنة، في حرمان تام من حقوقهم المدنية الأساسية، كحرية التعبير، والتنقل، والتملك، وغيرها من الحقوق التي تنص عليها المواثيق الدولية.

 

ومن هذا المنطلق، يتضح أن توصيف "المرتزقة"  يوجه خصيصا إلى القيادة المسلحة والسياسية لتنظيم البوليساريو كذا للوادين الذين تم استقطابهم من خارج مناطق الصحراء المغربية للزج بهم في الصراع، بينما يستعمل مصطلح "المحتجزين" للإشارة إلى المدنيين المستضعفين في المخيمات، الذين يجدون أنفسهم رهائن لوضعية سياسية مغلقة ومفروضة بالقوة. هذا التمييز في المصطلحات (المرتزقة للقيادة، والمحتجزون للسكان) يعكس استراتيجية خطابية مغربية ذكية تهدف إلى الفصل بين القيادة والسكان، والتأكيد على  المسؤولية السياسية و القانونية للنظام العسكري الجزائري الذي جعل من مخيمات تندوف أشبه  بمناطق احتجاز قسري.

 

يرى الرافضون لثنائية "المرتزقة" و"المحتجزين"، التي يستعملها الخطاب السياسي و الإعلامي لوصيف تنظيم البوليساريو وساكنة مخيمات تندوف، أن هذين الوسمين لا يعكسان الواقع، و يحيل المتلقي لكلمة "المحتجزين" على وضعية سجنية مكتملة الأركان، تتضمن سجنا  وسلاسل على أقدام المحتجزين و سجانا يحرسهم، مما يخلق في الأذهان صورة نمطية عن سكان مخيمات الحمادة، وكأنهم معتقلون داخل فضاء مفتوح. و الواقع في نظرهم هو أنهم خاضعون لاحتجازا معنويا أكثر منه مادي، إنه " سجن من الكلمات والشعارات والشحن الإيديولوجي......سجن الخوف والجهل والتوجيه المسبق وغسيل الدماغ الممنهج". أما بالنسبة لحرية التنقل، فهناك تقييد لحركة السكان و العربات من طرف الدرك الجزائري.  و "من عاش داخل مخيمات تيندوف يعرف جيدا  بأنه لا يمكن دخول مدينة تيندوف التي تبعد عن المخيمات بـ 12 كلم، إلا  برخصة  و إذن مرور من الدرك الجزائري قبل الدخول أو المغادرة بأربعة وعشرين ساعة". و انطلاقًا من هذا الفهم، يطالب هؤلاء بمراجعة الخطاب الرسمي المغربي و تفادي استخدام ما يعتبرونه مصطلحات "مهينة"، تندرج ضمن ما يسمونه "العنف الرمزي واللغوي"، والذي لا يخدم، حسب رأيهم، بناء علاقة تواصلية إيجابية مع ساكنة الرابوني. ويقترحون في المقابل اعتماد توصيف "اللاجئين"، باعتباره المصطلح المعتمد في أدبيات الأمم المتحدة وقراراتها المتعلقة بقضية الصحراء.

 

خلافا لذلك، يستمد الخطاب السياسي والاعلامي المغربي مشروعية استعماله لمصطلح "المحتجزين" من الواقع القائم في مخيمات الرابوني، وليس من المعنى اللغوي المجرد للكلمة أو الصور النمطية التي قد تثيرها في ذهن المتلقي. فالقضية ليست مسألة لغوية خالصة، بل تتعلق بـ "مأزق تصنيفي" متناقض بين التعريف القانوني للاجئين بموجب اتفاقية 1951 و بين الواقع السياسي الذي يعيش فيه ساكنة مخيمات الحمادة لكونهم خاضعين لجماعة مسلحة تقوم بأعمال عدائية ضد البلد الأم معلنة الانفصال و تأسيس دولة معلنة من جانب واحد. القانون الدولي لا يسمح للاجئين بتأسيس دولة او كيان سياسي مستقل على ارض الدولة المضيفة، لأن وضعية اللجوء مؤقتة و يسعى فيها اللاجيء الى البحث عن الحماية لحين زوال اسباب اللجوء. و يمكنه العودة بمبادرة عفو من الدولة مثل عملية "إن الوطن غفور رحيم" التي استقبلت حوالي 20 ألف شخص بينهم قيادات و مؤسسي البوليساريو، أو بالعودة  الطوعية بمبادرة شخصية كما فعل بعض العائدين، أو بالاندماج في البلد المضيف الجزائر او اعادة التوطين في بلد ثالث، الاقتراح الذي رفضته موريتانيا.

 

بعبارة أخرى، إن إطلاق الخطاب السياسي المغربي لصفة "المحتجزين على ساكنة الرابوني تعبير قانوني و سياسي سليم يعكس "أزمة الخطاب" لدى المتحدة التي حاولت علاج الخلل بشكل توفيقي و تسميتهم "لاجئين" في جميع قراراتها، رغم غياب الشروط القانونية المنصوص عليها في اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، والبروتوكول الملحق بها لعام 1967، وهي الشروط التي لا تنطبق على الحالة في تندوف. فتنظيم البوليساريو أعلن من جانب واحد ما يسميه "الجمهورية الصحراوية"، ويعتبر سكان المخيمات مواطنين تابعين لها، وهو ما يتناقض مع وضعية اللاجئ التي تقوم على فقدان الحماية الوطنية من دولة الأصل، ويقتضي التمتع بحقوق مدنية وسياسية داخل دولة حاضنة، وهو ما لا يحدث في الواقع. و رغم أن الأمم المتحدة تستخدم توصيف "اللاجئين" في قراراتها حول الصحراء دون اعتراض رسمي من المغرب، فإن هذا لا يغير من جوهر الإشكال القانوني، فالمخيمات ليست ملاذا إنسانيا صرفا، بل تشكل قاعدة خلفية لكيان مسلح ينظم عمليات عسكرية ويجند المدنيين ضمن ميليشياته، مما يخرق حيادية وضعية اللجوء. كما أن الجزائر، التي تحتضن هذه الجماعة المسلحة، متورطة برفضها المتعنت السماح بإجراء إحصاء دقيق وشفاف للسكان من طرف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وهو ما يعد خرقا لالتزاماتها الدولية. هذا الوضع القانوني والإنساني المعقد يضع الأمم المتحدة أمام مأزق تصنيفي حقيقي، حيث يصعب منح صفة "اللاجئ" لسكان يحملون السلاح وينتمون تنظيميا وعقائديا إلى كيان انفصالي مدعوم من دولة مضيفة، مما يجعل من توصيف "المحتجزين" تعبيرا عن واقع صارخ.

 

من جهة أخرى، فإن تواجد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مخيمات تندوف ليس تزكية للوضعية غير القانونية لسكان مخيمات الحمادة، و ليس ترقية لهم للحصول على صفة "لاجيء"، لأن التمتع بهذه الصفة مؤطر باتفاقية 1951، و يستتبع حصولهم على كامل الامتيازات و الحقوق التي توفرها لهم بطاقة اللجوء. و بهذا فإن تواجد مقر في تندوف هو "فرض عين" أملته الولاية الإنسانية للأمم المتحدة و مسؤوليتها في حماية وتعزيز حقوق الإنسان، وتقديم المساعدة الإنسانية، والحفاظ على السلام والأمن الدوليين. و بهذا فإن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مخيمات تندوف، و بغض النظر عن الوضع السياسي او القانوني، مجبرة على توفير الاحتياجات الانسانية الاساسية و التخفيف من معاناة سكان الرابوني الموجودين على ارض الواقع، لأن وضعيتهم "شبيه باللاجئين"، مما يعني أن الامم المتحدة كمنظمة لا تعترف بـ"الجمهورية الصحراوية" المعلنة من طرف واحد. ومع ذلك، فان عدم الاعتراف السياسي لا يعني التخلي عن مسؤوليتها الانسانية تجاه السكان المتضررين من النزاع، الذين تتعامل معهم المفوضية  في الرابوني انطلاقا من مبدا الحياد الانساني، اي تقديم المساعدة بناء على احتياجاتهم وليس على احتراما لتطلعاتهم الانفصالية.

 

ومن زاوية أخرى، فإن تحليل الخطاب النقدي سواء لدى المغرب و الجزائر و البوليساريو يكشف كيف يستخدم كل استخدام اللغة لتأطير العلاقات بين الفاعلين، وبناء التمثلات الجماعية، وترسيخ الصور النمطية. ومن هذا المنظور، فإن توظيف تعابير مثل "مرتزقة الجزائر"، و"جمهورية الخيام"، و"المحتجزين في تندوف" يعد جزءا من معركة رمزية تهدف إلى نزع المشروعية عن الخطاب الانفصالي الجزائري و لدى ربيبتها البوليساريو.

 

و من الأمثلة البارزة على صراع الرموز والتوصيفات، أن الملك الراحل الحسن الثاني أطلق على زعيم البوليساريو الراحل محمد عبد العزيز (1947-2016) لقب "عبد العزيز المراكشي"، في إشارة إلى أصله المغربي وتجريده من أي شرعية "تحررية" مفترضة، وتصويره كمغامر انفصالي انخرط في أجندة خارجية مدعومة من معمر القذافي وهواري بومدين، و قد لازمه هذا اللقب إلى حين وفاته، ليصبح جزء من بنية خطابية مغربية مضادة تبرز التناقض بين الهوية الأصلية والمشروع الانفصالي.

محجوب البرش السباعي، رئيس مركز رأس بوجادور للبحث و الدراسات