الفلاحة المغربية في مفترق الطرق.. حتمية التحول الاستراتيجي

الفلاحة المغربية في مفترق الطرق.. حتمية التحول الاستراتيجي وزير الفلاحة أحمد البواري
في صلب معادلة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، يظل القطاع الفلاحي حجر زاوية حاسمًا، لا من حيث مساهمته في الناتج الداخلي الخام فحسب، بل أيضًا من حيث دوره في ضمان الأمن الغذائي، والتماسك المجتمعي، واستقرار المجالات القروية. ورغم ما تحقق من برامج كبرى خلال العقدين الأخيرين، من «مخطط المغرب الأخضر» إلى «الجيل الأخضر 2020–2030»، إلا أن القطاع لا يزال رهين اختلالات هيكلية، وتحديات بيئية–اقتصادية متفاقمة، تُحتم مراجعة شاملة في منطق التوجيه والإنتاج والتثمين، ضمن رؤية استراتيجية جديدة.
 
أولًا: اختلالات بنيوية تُهدد الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للفلاحة
 
يعتمد أكثر من 85% من المساحات الفلاحية في المغرب على التساقطات المطرية، مما يجعل الإنتاج عرضة لتقلبات مناخية حادة، كما وقع في 2022 حين انخفض الناتج الفلاحي بنسبة -14% نتيجة الجفاف. ويشكّل صغار الفلاحين (أقل من 5 هكتارات) أكثر من 70% من مجموع الاستغلاليات، في حين أن ما يزيد عن 1.2 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية إما غير مستغلة أو مستغلة بطريقة غير إنتاجية.
 
هذا الهدر الترابي يتزامن مع سوء توجيه الإنتاج، حيث تُستنزف الموارد المائية في زراعات تصديرية غير استراتيجية (كالأفوكادو والبطيخ)، بينما تتراجع المساحات المخصصة للحبوب والقطاني والزيتون، ما يُفاقم التبعية الغذائية. كما أن السياسات الفلاحية ما تزال منفصلة عن العقار، وعن التهيئة الترابية الجهوية، وعن ديناميات السوق المحلية والدولية.
 
ثانيًا: التحديات الجديدة للفلاحة المغربية
 
 • التغير المناخي: تراجع التساقطات بنسبة 15 إلى 20% سنويًا مقارنة بالفترات المرجعية، في ظل غياب سياسات تكيّف شاملة.
 • نذرة الموارد: 50% من المياه المتاحة تُستخدم في الفلاحة، في وقت يتجاوز فيه الهدر المائي في بعض المناطق 40%.
 • هشاشة الكفاءات: فقط 3% من الفلاحين يتلقون تكوينًا حديثًا، وأقل من 2% يستخدمون تقنيات ذكية أو أدوات رقمية.
 • تفتت ملكية الأراضي وغياب أسواق منظمة لتداول الأراضي ذات الجدوى الإنتاجية.
 
ثالثًا: الإصلاح يبدأ من الأرض – الاستعمال الأمثل كرافعة استراتيجية
 
لا يمكن الحديث عن تحول فلاحي حقيقي دون إصلاح جذري لطريقة تدبير الأرض، من خلال:
1. إحداث خريطة وطنية لاستعمال الأراضي الفلاحية
بمؤشرات إنتاجية–مناخية–هيدرولوجية، محدثة سنويًا، تُوجّه الاستثمار العمومي والخاص، وتمنع تحويل الأراضي الخصبة لأغراض غير فلاحية.
2. إصلاح العقار الفلاحي
بإنشاء بورصة وطنية للأراضي الفلاحية، ورقمنة كل المعطيات العقارية وربطها بمنصات التمويل والتكوين والمواكبة.
3. تفعيل التهيئة الفلاحية الجهوية
عبر مخططات مندمجة ترتكز على نظم معلومات جغرافية (GIS)، وتدمج الماء، والتربة، والبنية العقارية، والموارد البشرية.
 
رابعًا: دروس من العالم – التجربتان الهولندية والأسترالية
 التجربة الهولندية: المعجزة الفلاحية في أرض منخفضة
رغم أن هولندا لا تتجاوز مساحتها 41,500 كلم²، وهي من أكثر الدول كثافة سكانية في أوروبا، فإنها ثاني أكبر مصدّر فلاحي في العالم بعد الولايات المتحدة. كيف تحقق ذلك؟
 • استعمال محكم وذكي للأرض: كل متر مربع له وظيفة محددة ضمن مخطط وطني دقيق، حيث تُوجّه الزراعات حسب نوع التربة والمياه والطاقة المتاحة.
 • تكامل العلم مع الفعل: أكثر من 15 جامعة ومعهد فلاحي تعمل بتنسيق مع المزارعين، وتنتج أصنافًا عالية الإنتاجية وقليلة استهلاك الماء.
 • رقمنة الفلاحة بالكامل: استعمال مكثف للذكاء الاصطناعي، Drones، الحساسات، والزراعة الرأسية.
 • سوق موحدة شفافة للأرض تُحدد القيمة الإنتاجية الحقيقية لكل هكتار.
 
الدروس للمغرب: حسن استعمال الأرض، وتكامل التخطيط–العقار–البحث العلمي، يمكن أن يعوّض ضعف الموارد الطبيعية، بل ويحوّل التحدي إلى فرصة ريادية عالمية.
 
 التجربة الأسترالية: الفلاحة في مواجهة الطبيعة
تمتد أستراليا على قارة شاسعة، لكنها تعاني من مناخ قاحل وشبه جاف، ومع ذلك تُعد من أكبر مصدري الحبوب واللحوم في العالم.
 • تقسيم ترابي وظيفي صارم: الأراضي الفلاحية مُحددة بقانون، ولا يمكن تحويلها دون موافقة بيئية–اقتصادية صارمة.
 • مؤشرات دائمة للاستعمال: تعتمد الحكومة على نظم مراقبة عبر الأقمار الاصطناعية لتحديث استعمالات الأرض، والتحذير من التآكل أو الهدر.
 • تحفيز الفلاح على الاستدامة: يتم توجيه الدعم على أساس الإنتاجية، والكفاءة المائية، وعدم الإضرار بالنظام البيئي.
 • حوكمة تعاونية للأراضي: يتم تمليك الأراضي لمجموعات إنتاجية تعمل وفق عقد واضح مع الدولة.
 
الدروس للمغرب: في بيئة شحيحة المياه، يصبح الاستعمال العقلاني للأرض وربط الدعم العمومي بالكفاءة البيئية مفتاحًا للسيادة الفلاحية.
 
إن تجارب هولندا وأستراليا تؤكد أن التحديات الطبيعية ليست قدرًا، بل يمكن تجاوزها بالمعرفة، وبالحكامة، وبالسياسات التي تجعل من الأرض أصلًا استراتيجيًا لا مجرد وعاء للإنتاج العشوائي. والمغرب، إذا أراد أن يبني فلاحة الغد، فعليه أن يبدأ من حيث يجب أن يبدأ: من الأرض، من وظيفتها، ومن عقلنتها.
 
إن الاستعمال الأمثل للأراضي الفلاحية، المؤطر علميًا وترابيًا وتقنيًا، هو البوابة نحو مغرب غذائي آمن، وطني في إنتاجه، عصري في تنظيمه، ومستدام في أثره.