إنها الأسئلة التي تعتمل في رحى النقدية الشعرية المعاصرة هنا والآن...لا يزال الحاضر يمنحنا شرف المناورة، أمامنا خياران: إما أن نراهن على التغيير من ساحة الإبداع، بأدوات متجاوزة، أو أن ننسحب ونترك هذا العالم يتعفن إلى ما لا نهاية…ففي الشعر كما في أصناف الابداع لم يعد الكلام مفيدا، من يُدلي برأيه في نص أو تجربة شعرية، ليبدأ بالنص، وبالنص ينتهي، والباقي، مهما كانت ضرورته مجرد أضواء كاشفة...لربما أن تكتب الشعر أو حتى أن تقرأه ضمن هذه الأزمنة السائلة دائما فتلك تراجيديا لا يُدرك فحواها إلا من استأنس بمصنفات الشعر، وآمن بقدرته على تحرير الإنسان والإنسانية من جهالة الاستيلاب المركب. شِعرية المعاصرة بالنهاية هي زواج بين الفكر والفن، لا الصوت ولا الإملاء...الشعر هو التصادي والتضايف باستعارة من صلاح بوسريف دائمًا. لا يُقبل الشعر بدون نَسغ فكري، كما لا يقبل الفكر بدون رؤية شعرية...من يربط الشعر باللغة والوزن، باللعب بالمفردات والجمل، لربما يظل خارج مداراته الفكرية…شعرية النص لا تجري مجرى اللغة بالضرورة…الشعر تجلٍّ لرؤية الإنسان في الحاضر، فالناس أبناء زمانهم قبل أن يكونوا أبناء آبائهم كما يقول مارك بلوك…لقضايا تعتمل داخل ركح التاريخ، حيث لا أحد من شعراء الماضي وعى بالوزن، ولا عرف التفعيلة، ولا كان يعرف أن قصيدته هزجا أو رجزا، رغم أن المعري نفى الشعرية عن الرجز نفسه…الشعر مكنون معارف ولغات وثقافات وفنون وأشكال تعبيرية جمالية بما فيها العمارة والمعمار...
الشعر مُترجم وفي لانشغالات الذهن البشري في الوجود، فكما هناك الوعي بالتاريخ كشرط لممارسة شرعية الوجود في الزمن، كان هناك الوعي بالشعر لممارسة شرعية الإبداع في المكان...من لا يحلم لا يستحق أن ينتسب إلى سفينة الابداع، تذكروا معي مع فارق القياس تيودور هيرتزل عراب العقيدة السياسية الصهيونية، وهو يجمع سدنة اليهود في بهو فندق بسويسرا وسط استخفاف أثرياء اليهود بمشروعه القومي قائلا: "سيصبح مشروعكم حقيقة إن أنتم آمنتم به". اليوم الكل يقف مشدوها أمام هذا المشروع، أمام ذئب إسرائيلي ينهش شاة فلسطينية، أوَ لم يكن هذا المشروع سوى حلم تحول بالتدريج إلى فكرة وصار اليوم واقعا جيوبوليتيكيا؟
الشعر هو من يرسم الأفق، لحظة التشظي والأفول، يُرمرم الوجدان إن انكسر، تذكروا معي أشعار الشاعر الفرنسي شاتو بريان عشية انكسار الوجدان الفرنسي في بهو قصر فرساي عام 1870 من طرف الألمان، كيف أمكن لهذا الشاعر الحصيف أن يعيد بناء شخصية فرنسية متهلهلة بهِمَّة إبداعية، جعلتها تستنهض ذاتها من أجل أن تعود إلى حضن التاريخ وتنساب في تجاويفه...ليس غريبا أن يصطبغ الشعر حينما تستعر الأمة ببلد ما بوشاح السياسة، فيصير مُعبرا عن مضمراتها، رامزا لدناستها، كاشفا عن حديقتها السرية...حينما يرتدي الشعر وشاح السياسة يصير زفرة للمظلومين، وصوتًا لمن أقبروا من كتابة التاريخ، لمن ظلوا على هامش سرديات الماضي...
يورد الفيلسوف الألماني هايدغر في محاضرة عصماء بعنوان: "هولدرين وجوهر الشعر" تساؤلا مريبا يزلزل قلاع اليقين، لماذا نبحث عن جوهر الشعر عند هولدرين وليس عند أي شاعر آخر في ألمانيا أو غير ألمانيا؟ لماذا لا نبحث عنه عند غوثيه أو شكسبير، عند فيريجيل أو حتى هوميروس؟ يجيب أنه بعد أن أضناه السؤال، إنه الصدق المطلق مع الذات، الجنون الذي يخلع هالة السحر، الجاذبية التي تجعلنا نلمح من ثقب الباب العالم الآخر الذي يستعصي علينا وعلى العقل والمنطق...الصدق الذي يُخرجنا من رتابة الحياة، الصدق الكاشف عن ما استغلق عنا من مجاهيل وعتمات...ما لا يفهمه الناس، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الشعر انتساب للإنسانية، بما هي وعي بالوجود والخلود، بما هي أيضا انتقال من حالة الوجود بالفعل إلى حالة الوجود بالقوة، بما هي انتقال من حالة الطبيعة الى حالة الثقافة...الشعر رؤيا للحياة وإكسير للخلود، ومُفارقة للمادة، قد تنهار الحضارات وتخلد أشعارها، وقد لا نتذكر اليوم الحضارات القديمة بقدر ما نستعيد مخزونها الابداعي...قد لا نماري في توصيف واقع لا يرتفع، حيث الابتذال والاسفاف يرخي بهياجه على بشرية اليوم؛ إسفاف في الحلم، تصحر في الوجدان، أزمة عسر هضم كما يصفها المفكر الفرنسي جيل كيبل...هل لا يزال لنا الحق في أن نمارس الحلم خارج العلبة؟ خارج التاريخ؟ خارج الأفق المرسوم؟ مشكلتنا أننا نمتلك حلما خُلَّب استقر على الأوهام. الحلم يجب أن يكون غاية، الحلم بلا همة وعمل كبحر بلا مرفأ كما قال شهاب الدين أفوقاي...
ثمة انشغال يرهن حاضر علوم الإنسان، سؤال الانعطاف، الذي يجعل من صيغة ما هو الإنسان تنصرف نحو صيغة من هو الإنسان؟ من يقدر على الإجابة، وحدها الفلسفة خبرت المعركة مبكرا وانصرفت، أجمع الكل على طابع الانزياح، على التركيب والتضاد، على تشابك الروح والمادة، الفكرة والنقيض، المقدس والمدنس...كل اهتمام بالإنسان تعبير عن مطابقته ومحايثته للمعنى، معنى الوجود، معنى الوضوح، معنى الاختلاف. بدوره الشعر خاض المعركة ولا يزال بحثا عن توصيف أكثف للذات البشرية...
الشعر فعل للمقاومة في بلد صمتت طيوره عن الشدو والغناء، وصارت أزهاره ترفض أن تنفتح في الصباح...بلد أتى عليه حين من الدهر حتى صارت رايته منشفة يجفف بها المغنون التافهون عرقهم في السهرات، وعاهرات البؤس يحاضرن فيه عن الشرف والأخلاق، واللصوص يقومون فيه بالدعاية لمحاربة الأصفياء، والماضي يرفض أن يذوب في التحديث، والتحديث يتلبس برداء الماضي في مسرحية رديئة الاخراج…فمن يوقف مرة أخرى هذا الانحدار؟ أو على الأقل من يُنبهنا إلى أننا ماضون نحو الارتطام بالحائط أو لربما وقع هذا الارتطام من حيث لا ندري؟