تعـُـج الساحة السنيمائية الايطالية بمخرجين كبار لكنها تحتفي بشكل خاص يوم 13 نوفمبر بـذكرى رحيل رائـد الواقعية الجديدة المخرج فيتوريو دي سيكا.. وتُـبرمج بعض الـقنوات أسبـوعا لأعماله الخالدة على أن يكون ختام الإحتفاء هو عرض فيلـم " لاتْـشُـوتْـشارا" أو "الـبدوية الحافـية " (النسخة الفرنسية) ..فهل هـذا الاختيار يتـم على أساس فـني لـوجود فنانين كبار..كبـيـل مونـدو وصوفيا لـورين الفائزة بالأوسكار لسنـة 1962 عن دورهـا في هـذا الـفـيلم..أم على أسـاس تـاريخي وما يمثله من تـوثـيق لأحداث الإغتصاب الجماعي وسط ايطاليا أثـناء الحرب .ع. الثانية..؟
مـاروكـيناتي..ذاكـرة جمـاعـية تـتـهـم جـيـش الكـوم...
من الشـائع أن كـلمة "الماروكينو" (المغربي) بايطاليا هي مُـرادفـا لكل الألقاب القبيحة..وتكاد تكون مسلمة لدى الجميع..لكننا نعتقد الى حد الجزم أنها ثـمرة للـذاكرة الجماعية والمرتبطة بأحداث الاغتصاب الجماعي التي تعرضت لها مناطق طوسكانا ولازيو ولاتشوتشارا.. وهكذا أُطـلـق إسـم " مـاروكيناتي " على الإيطاليات ضحايا الاغتصاب من طرف جـيش الكـوم خلال الحرب ع الثانية..ولهذا,فـلاتْـشُـوتْشـارا لا يـعـتبره الكثير من الايطاليين مجرد فيلما فقط, بـل هو أكثر من ذلك هـو ذاكرة وصفحة مظلمة...اشتغل على أحداثها الـروائي ألبيرتـو مـورافيا في كتاب يحمل نفس عنوان الفيلم سنة 1957 ليُحـولـه دي سيكا الى فيلم سنة 1960 مُحرجا بذلك العديد من المؤرخين الذين تعمدوا القفـزعلى هـذه الفترة معتبرين إيـاهـا صفحة تاريخية مؤلمة...المتهم الرئيسي فيها هو المغاربة (جيش الكوم).. لقد اختلفت وجهات النظر حول ظروف الاغتصاب الجماعي للايطاليات والقتل في يونيو 1944 من طرف جيش الكوم واختلفت تقديرات عدد الضحايا بين المآت والآلآف لكنها اتفقت على وقوعها وعلى وحشية مُـقـتـرفيها...
الـحقيقـة الـقضـائيـة والـحـقيقـة الـتـاريخـيـة...
فأصل الحكاية يقول بإعطاء الجنرال ألْـفـونس جُـوان " الورقة البيضاء " لـمدة 50 ساعـة لجـيش الكوم إن هُـم اخترقـوا "خـط غـوستـاف" الايطالي حيث توجد القاعـدة 71 للجيش الألماني.. وهي حكاية يشكك في صحتها الكاتب الفرنسي جون كريستوف نُـوتـان في كتابه (الحملة الفرنسية..الانتصارات الفرنسية المنسية) لعـدم وجـود أثــرمكتوب لهذه الورقة البيضاء وأنها فقط من نسج الخيال الجماعي.. إلا أن الأوراق القضائية تقول ان المحكمة العسكرية الفرنسية وإلى حدود 1945 أصدرت حوالي 160 مقرر قضائي ضد 360 فـرد ,حيث تـنوعت العقوبات بين الاعـدام والاعمال الشـاقـة كما تـم رمي 15 مغربي بالرصاص فـورا يوم 26 يونيو.. لـقد تحركت الآلـة القضائية بـناءا على أحداث لم يـسلم منها لا الصغير ولا الكبير بل حتى الـرُهـبان..حيث تعرضت قـريـة إيسْبِـيـرْيـا بعد إخـتراق خـط غوستاف في مـاي الى حوالي 600 امـرأة فيها للعنف والاغتصاب..مما نتج عنه أعمال انـتقـامية مُـتعـددة ضد الحلفـاء وهو ماجاء في روايـة " نـابـولي 1944" للكاتب نـورمـان لـويـس بـقـولـه "...حيث تـم استـدراج 5 جنود من طرف نساء ايطاليات وقـدموا لهم الخمر والطعام..المسموم..
وقاموا بقتلهم بعد ذلك..." مما دفع بـابـا الفاتيكان بِـيـُـو السابع الى دعـوة الجنرال دوغـول للقيام بالتدابير اللازمة والذي كلف بدوره الجنرال غـيـوم باعتباره قـائـد جيش الكوم...ورغم إلحاح الضباط الفرنسيين على أهمية جنود الكوم فإن الجنرال دوغـول وفي أول زيارته للجبهة الايطالية 1944 تحدث عن إرجـاع الكـوم الى المغرب وتكـليفهم بأعمال حفظ الأمن و النظام هنــاك... لقد وصل عدد طلبات التعويض حوالي 60 ألف طلب وهو رقـم كبـير يشير الى هـول فـاجعة تبناها "اتحاد النساء الايطالي" الـذي نظم إحتجاجات سـانـده في نظاله الحزب الشيوعي الايطالي مـنـد سـنة 1951..
إلى أن أقـرت الحكومة الايطالية سنة 2004 بأحداث الاغتصاب الجماعي ومسؤولية المغاربة (الـكـوم) وخصصت ميداليات الاستحقاق المدني للمدن التابعة لمنطقة لاتشوتشارا...
بالاظـافة الى اهتمام الاعلام والمجتمع المدني والتي اعتبرت تـوثيـق الـذاكرة الجماعية بكل مافيها من مآسي وألــم, ضرورة مـلـحـة.. وفي شكل "بُــوح جمــاعي" تحـدثـتْ الضحايا " ماروكيناتي " لـوسائل الاعلام الايطالية عن ظروف الاغتصاب و أوصاف المُغتصبين وعن الآلآم والأمـراض المعدية ومـوت الأجنـة..والعُـزلـة.وأنه رغـم مُـرور كل تلك السنوات فإنها لـم تستـطع مـسح صرخات الألـم والنجدة من ذاكـرتهـن...
لقد حـاول البعض إعـطاء تبريرات لتلك الاحداث مُعتمدا على الأوظاع الاجتماعية ...فالكـوم حسب نـوتـان ".. يتكون من فئات فـقيرة لدول المغرب الكبير ومن سكان الجبال والأميين وقد لـعب شيوخ القبائل وأئمة المساجد دورالوسيط مع الضباط الفرنسيين..
وحسب نـوتــان دائما فإن المغاربة لم يحاربوا من أجـل الوطنية بل من أجـل الراتب الشهري والحصول على لـقب "محارب" كما أنهم كـانـوا ينطقون بـالشهادتين عند كل هجوم..ويسلمون الجنود الألمان بمبالغ مهمة حسب رتبة الجنود للضباط الأمريكيين..." أما الكاتب المغربي الطاهر بنجلون وفي معرض استجوابه من طرف جريدة الماتينو (الصباح) 10 سبتمبر 1993 فقد قال بأنهم ".. ناس تعيش في الجبال ورعاة وفلاحين صغار وفقراء كان الفرنسيون يقومون بحملات ويشحنونهم في شاحنات تنقلهم بعيدا عن بيوتهم من أجل القيام بأعمال عنف...وبالتالي فأعمال العنف يجب ادخالها في هذا الاطار..
كما أن المغاربة لم ولن يكـونوا "مجانين أو مهْــوسي الجنس" كما وصفهم كورسو مالبارتي في كتابه " الجلد"...
في المغرب يُعـتبرون أبطـال كـاسيــنـو..." إن المزيـد من البحث في الحقيقة التاريخية يضعنـا أمام معـادلة تقـول إن جيش الكـوم تأسس سنة 1908 وتم حله سنة 1956 ..أي أنه اشتغل في وقت كان فيه المغرب تحت الحماية الفرنسية وبالتالي فالدولة المغربية لم تكن مسؤولة عن تلك الاحداث وهـذا ما يقوله الفرنسيون عن أحداث حكومة فيشي مثلا, بأنها لا تمثل فرنســا..كما أن المغرب لم تكن له اطماع استعمارية لإرسال جـيـشه الى رومـا أو غيـرها.. أضف أن جيش الكـوم كان بأغلبية مغربية لكن يتكون أيضا من عناصر جزائرية وتونسية وسينيغالية...
لُــغــة المُـتـنـاقـضــات....
الـدفع بجيش الكوم المتمرس على الجبال لإختراق خط غوستاف يُـعبـد الطريق الى روما وحسب نوتــان فـفـرنسا كانت تحتاج لهذا النصر لتـظهر أمام الحلفاء بأنها لازالت دولة قـوية ومن أجل تجاوز احتلال 1940 وتعاون حكومة فـيشي مع الألمان وأيضا الـرد على موسوليني لإعلانه الحرب على فرنسا...
ويظهر أن تضخيم حجم أحداث الإغتصاب الجماعي كان في صالح كل الاطراف تـقـريـبـا..بــدءا من المانيا النازية وايطاليا الفاشية للتغطية على عـهـدهما الـقمعي والاستعماري.. وقيل أيضا ان التضخيم سعت إليه الحكومة الايطالية من خلال دفع النساء للمطالبة بالتعويض كضحايا..كما قيل ان التضخيم سعى إلـيه الـفاتـيكان خـوفـا من المـد الاسلامي.. وأخيرا التضخيم كان في صالح الحلفاء للاحتفال المنفـرد بالنصر وأن لا فـضل للجنـود المغاربة (الكوم) في فـتح رومــا.. المتضرر من التضخيم هو جيش الكـوم.. بإلـصاق سمات العنف والاغتصاب على كل المغاربة وليس إعـتبارهـا حالات فـردية...رغـم أنهم دخلوا المعركة بتعـداد 12 ألـف لـيبقى منهم فقط 7000 أي سقـوط 5000 مغربي (كومي) كـشهيد للحرية و ثمـنـا لـفتـح طـريق رومـا... الاغتصاب من حــق في زمـن الحـرب إلى جـريـمة في زمــن السلـم... في كل العصور أُعتُبِـرت المرأة في زمن الحرب الحلقة الأضعف وهكذا كانت ضحية للعنف والاغتصاب... وعليه فلا يجب أن ننسى الاغتصاب الجماعي للجيش السوفياتي لـنساء المانيا المهزومة و200 ألف امـرأة أسـيـوية خصصت لبيـوت الـدعارة لـفائدة الجيـوش اليابانية في الحرب ع الثانية وإغتصاب نسـاء البوسنة المسلمات من طرف الصرب وايضا 500 ألف مغتصبة من روانـدا في حربها العرقية...الخ
فمعاهدة لاهـاي 1907 تضمنت حماية المدنيين وممتلكاتهم في حالة الحرب..وانتظرنا الى سنة 1996 لـتـنص محكمة العدل الدولية صراحة على تجريم الاغتصاب زمن الحرب بمتابعتها 8 جنـود صرب في جناية إغتصاب نـسـاء من الـبـوسنة..
هـل لِـشُــرود الـبعـثـات المغربية بايطاليا من نهــايـة...؟
من المفروض أن تُـولـي البعثـات الـديبلوماسية والـقنصلية بايطالـيـا بـالـغ الأهميـة لموضوع "ماروكيناتي" بـاعـتباره مفـتـاحـا لعـدة مشاكـل عـالـقة ومن يقول عكس هــذا نـقـول لـه بكل صراحة قـد أخطـأت العنـوان...
فـأي سفـيـر أوقـنـصل يـجهـل تفـاصيل هـذه القضية ويجهل أيضا أهمـية الأطراف المتدخلـة فـيـه وما يُـمكن أن تُـشكل أو أنها قـد شكلت فعـلا عـرقلـة كـبيـرة في الكـثيـرالـمواضيع لا نملك إلا أن نـقـول لـه ...ســـلامـــا
فلماذا لم تسعى الى تـنظيـم لـقـاءات أكـاديمية مع الجامعات والبرلمان وإتحـاد الـنساء الايطالي ومنـاقشة الموضوع من نــاحية الـحقيقـة الـتاريخية..؟ ولماذا لا تسعى الى إشـراك السلطات الـفـرنسية في بـرامج المصالحة مع الماضي وجبرالضرر..معـنـويا على الأقل لما تـبقى من ضحايـا الاغتصاب بعد مــرور 70 سنـة..؟
وأيضا إصلاح سُمعـة المغاربة من أحـداث تـم تضخيمهـا وجعلت نصْـر المغاربة بِـدون مـجْـد لحـاجـات في نـفـس يعـقـوب...؟ والــعـارف لا يُعــرّفْ...