كُلُّ الذين رافقوا مَحلَّة الكتاب كان يشغلهم هاجس الوجود والانتماء. إلى من نكتب؟ هل نكتب لذواتنا؟ أم نكتب لنبرأ من ندوب الزمن؟ أم نكتب لنتطهر ونشفى؟ كثرت الأسئلة في هذا السياق في كل محاور الفكر شرقه وغربه...إلى أن تمَّ التوافق: لا حياة لكتاب من دون مقام فكري يحضنه، ينقله من زمن بائد إلى زمن متشكل بمفهومات جديدة وقضايا راهنة...يستدعي تشييد المقام إحلال شرطية الآن مؤانسة الكتاب بدل مؤانسة التفاهة...وإضفاء معنى جديد على معنى قديم خارج حسابات الاستهلاك المادي وغواية الصناعة السياسية...للمقام رهان كبير يتعذر حتى على مُنتسبيه؛ رهان بناء حُلم جماعي يُشيد حجرة حجرة، وسورا بعد آخر يُعلي من قيمة الانتاجات الأدبية والفنية والفكرية، ويُوطنها في النظام العام للأشياء.
في أولى عتبات تشييد المقام نلتقي مع الكتاب الأول: "أبحاث في تاريخ الماء بمراكش وأحوازها" من تنسيق الباحث رشيد شحمي، وهو بالمناسبة مشروع يندرج ضمن سلسلة "مراكشيات" لإحياء التراث الثقافي المراكشي الذي تُشرف عليه مؤسسة آفاق للدراسات والنشر. رُفقة الكتاب نعيد تشكيل الأسئلة الكبرى لتاريخ الماء في المغرب: كيف يرتقي الماء لأن يكون موضوعا للاهتمام التاريخي؟ كيف أمكن لمراكش -المدينة المرابطية المنشأ- أن تُغني تاريخ البلاد ككل وهي التي تقلبت بين سنوات الجَذب والفَيض؟ كيف نُفسر هذا الارتباط بين الماء والمدينة؟
تنتظم جل مساهمات الكتاب في خيط ناظم في أننا أمام قَدريات مجالية خانقة أخرجت إلى الوجود عبقرية استثنائية وأمَّنت البقاء البيوكيميائي للإنسان المراكشي في اللحظات الصعبة...يُعنى الكتاب من ضمن ما يعنى بقضايا التراث المائي من حيث منشآته وظروف تدبيره وتوزيعه، وأيضا من حيث قوانينه الشرعية والعرفية المنظمة لسير الحياة الاجتماعية والاقتصادية...
غير بعيد عن الماء، نلتقي مع كتاب ثانٍ، بعنوان: "التصوف في تاريخ مراكش وأحوازها" بتنسيق ثلاثي مشترك بين كل من أنوار أصبان وعبد البر حدادي ورشيد شحمي...في الكتاب يحضر التصوف. يتعلق الأمر، بفاعل مركزي في قراءة تفاصيل تاريخ المغرب. ينطلق مؤلفو الكتاب من فكرة جوهرية: إعادة بعث موضوع التصوف في الفضاء العام في ظل جنوح الأخلاقيات الإنسانية نحو الاقصاء والانغلاق وتحلل السَّدى الإنساني وضمور الروح مقابل طغيان المادة واستيهاماتها الغريزية...وفي مقام ثان، يُراهن مؤلفو الكتاب على تبديد سوء الفهم الكبير الذي خنق الممارسات الصوفية في تجليات طُرقية غير سَوية...فكرة الكتاب واضحة جدا، التصوف أحد أضلع تاريخ المغرب، لا من حيث تأمين استمراريات التنظيم السياسي والاجتماعي، ولا من حيث خلق التضامنات داخل المجتمع وتدبير الهشاشة والعوز...يُلح أيضا مؤلفو الكتاب على وجوب استعادة الصوت الصوفي؛ صوت العقل والتنوير حتى نتمكن من تحرير الانسان من ترسبات الفكر المغلق والقراءات الأحادية الموجهة...من حقنا أيضا أن نعيد معهم بناء الانشغال: هل نحن في حاجة إلى استعادة هذا الصوت؟ الجواب نعم شرط أن نُدرجه ضمن احتياجات وسيولات الإنسان المعاصر بتعبير مُنسقي الكتاب دائما.
وحتى تتضح الرؤية أكثر فأكثر. يقترح منسقو الكتاب تسقيف الأفق المنهجي من خلال تدقيق الرؤية: تحليل، فحص، وتأويل...بالشكل الذي يسمح بإعادة بعث القضايا الكبرى التي يثيرها النسق الصوفي في مدينة الأولياء السبعة وخارجها...العمل بالنهاية، هو جسر وَصل بين أجيال البحث، بين جيل أول تخصص في الموضوع في سياق بناء الهوية الوطنية للكتابة التاريخية المغربية، وجيل ثانٍ يستأنف انشغالاته حول الموضوع برؤى جديدة منفتحة على رصيد التلاقحات المنهجية...الأساس في الكتاب، تعدد الموضوعات وترافد الأبحاث إلى المدى الذي يؤهل القارئ العادي والمتخصص من تشكيل الصورة التي رافقت اشتغال النسق الصوفي في تاريخ المغرب من حيث الأصول والأعلام والقضايا والاشكالات...
ومن مجال التاريخ إلى تاريخ المجال، نرافق الباحث محمد المليح في إعادة تشكيل هوية قبيلة أطلسية تدرجت بين الحضور والغياب...يقترح علينا محمد المليح سفرا في تاريخ قبيلة مصمودة. وحده جلالة الاسم هنا مُحفر على معرفة ما سيأتي لاحقا...والتركيز في الكتاب كان على مدينة أمزميز. الأفق واضح جدا كما حددته مقدمة الكتاب: بناء مجال بهوية وتاريخ يربط بين الماضي والحاضر، والحاضر والماضي...الأحياء بالأموات، والأموات بالأحياء. بتعبير المؤرخ مارك بلوك...برغبة صريحة وأكيدة في إجراء مصالحة مع الذات ونفض الغبار عن واقع التهميش الذي أريد لها أو ابتغت لنفسها.
يُعيد السي المليح بمشقة وجُهد كبير تجميع الشذرات المتناثرة في متون المصادر، والنتف الإخبارية التي علقت في سرديات الرحالين والجواسيس والمستكشفين...من أجل تشكيل سردية جديدة عن مجال أمزميز، وكأني به يُعيد بعث شطر بيت محمود درويش حينما قال: "من لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية". يُشبه الأمر، إخراج فكرة من عدم إلى وجود، أو إبرة من كومة قش...يتوفق كثيرا السي المليح في استعادة تفاصيل اللحظات الكبرى التي رافقت محطات الفتح الاسلامي في المنطقة وخضوعها لهيمنة البورغواطيين وتشكلات الرباطات الجهادية على طول الشريط الديري الشمالي للأطلس الكبير الغربي...ويتعقب في شأن ذلك، سيرا على خطى الأركيولوجيين، إسهام مدينة نفيس المُندرسة في التراب في انطلاق حركة بن ياسين وقيام دولة الملثمين إلى جانب ربيبتها أغمات...لا تظهر مدينة أمزميز بكامل أناقتها ورشاقتها إلا هي تصطحب معها زينب الهوارية إلى واجهة المشهد...جرى التحول سريعا في المجال المصمودي، ولم يكن في صالح مدينة أمزميز، فخرجت من معادلة الصراع مُخربة ومقسمة ومدمرة، وبدا وكأنها فقدت مجدها التاريخي، وصارت ذكرى بعد أن كانت ذاكرة...وفي أعقاب التحول الكبير أطلَّت الولية الصالحة للا عزيزة السكسيوية لتمنح قبلة حياة إلى تاريخ مدينة تمضي ببطء نحو المشهد الأخير من الحكاية.
مع اطلالة القرن السادس عشر، "العصر الحديث" تجاوزا حتى لا يعيب علينا أهل التحقيب. سيغتني مجال أمزميز برافدين بشريين: برتغاليون قادمون من السواحل، وسوسيون قادمون من مناطق الجلاء...فِعل وفعل آخر مضاد...كان حظ المدينة وقتها أن أعلنت تشكيل حكومة محلية، وانتعشت فيها وخارجها سلسلة من الزوايا والأضرحة. لكن، بوفاة سُلطان الحَرْكة مع المشهد الأخير من القرن التاسع عشر ارتدت أمزميز إلى تراجيديا مجالية، وأعلنت عن نهاية حكم قيادة أيت توزالت 1524-1894 بعد حكم دام ثلاثة قرون، لحظتها تَشضَّت القبيلة وانصرفت وحداتها نحو الاحتراب والانقسام إلى أن تمَّت تهدئتها عسكريا مع حلول الفرنسيس...للكتاب وَقع وجداني خاص، ذلك أنه يُختتم بوصية ثقيلة، ويُلقي بالمسؤولية على أبناء مدينة أمزميز من استنهاض الهمم لتوثيق ذاكرتهم وتحرير ماضيهم من فداحة الالتباس.
في الالتقاء الرابع، كتاب محمد البندوري حول "أنواع الخط المغربي". ينصرف القصد منذ البداية نحو إشكالية واعدة في مصفوفات الكتابة التاريخية لم يُلتفت إليها بعد...بين الماء والتصوف وتاريخ القبائل هناك مسألة الخط، والخط معناه الكتابة والتدوين...كلما كانت العناية بأسسه الجمالية كلما أمكن الحديث عن نهضة الدول وقياس تقدمها في مجال العلوم والآداب والفنون...يَسلُّ البندوي مُبكرا مسألة الارتباط عن الشرق بإعلانه أن الخط المغربي متميز عن الخط المشرقي...الخط كما يصادفه القارئ قِوام المعاملات التجارية والممارسات الدينية والتداولات الاجتماعية...لخط المغاربة تفرد خاص، ومزج بين العين والتأويل، العين للإراحة، والتأويل لخلق إمكانات جديدة من أجل القراءة والانتقال من جمال الحس إلى بناء المعنى والدلالة...الخط المغربي تجلٍّ واضح لعبقرية الانسان المغربي في التاريخ وتفرده عن الآخرين...لسنا طارئين على هذه الأرض، ولا ينبغي لنا أن نَشعر بذلك أو نُشعر الآخرين بذلك...الخط في المبتدأ والمنتهى قياس هندسي دقيق ومهارة رياضية حاذقة...التزم به المغاربة منذ اتصالهم الأول بالإسلام، وأضافوا فيه ما أضافوا، وبازدهار حضاراتهم وارتقائها تميزوا في ذلك تميزًا ملحوظا عكس ما سقط فيه ابن خلدون وهو المخطئ في هذا الجانب بإفادة من شيخ المؤرخين محمد المنوني وشيخ الكوديكولوجيين شوقي بنبين. الخط في حاصل القول، هو من بصم الشخصية المغربية بتميز معتبر امتزج من خلاله روح المادة بمادة الروح...
كيف يستنطق مهندس معماري تاريخ عمارة مغربية أصيلة؟ وكيف تتكامل رؤية المهندس المعماري مع رؤية المؤرخ من أجل تخصيب سردية تاريخية تعيد بعث الأصيل والعتيق دون أن تتوجس منه؟ عبر السؤال نصاحب المهندس عبد الغني خلدون في قراءة شفيفة للتراث العمراني والمعماري لمدينة بجعد. مدينة عتيقة في محيط تادلاوي تختبر فرضية التكيف، وتستعيد عبر عمرانها تفاصيل التشكل مع وليها الصالح سيدي بوعبيد الشرقي عام 1536م. للمدينة كما يقول عبد الغني خلدون روح تسكن تفاصيل العمارة في أدق تفاصيلها...كيف يتأتى لنا معاينة تواضع العمران وجمال التشكيل؟
فضاء يسكن أرواح، وأرواح تسكن الفضاء...لكن الأصيل فيها، الوفاء لعذرية الفضاء بدروبه المسدودة وساحاته المرتبة...يدعونا الكتاب إلى الاقتراب من تاريخ مدينة تقاطعت مع عواصم المملكة، وتعزز هذه الرؤية بصور فوتوغرافية ورسوم تخطيطية وأعمال فنية...يأمل المهندس خلدون أن ترتقي مدينة بجعد إلى تراث انساني ضمن قوائم اليونسكو...ليس غريبا أن يأتي الأمل والرجاء من ابن بار للمدينة يستثقل بهَمها في حلِّه وترحاله.