لم يكن التوجيه الملكي في المجلس الوزاري الأخير بشأن إطلاق برنامج جديد لإعادة تشكيل القطيع الوطني مجرد إعلان نوايا واسناد الاشراف عليه للسلطات المحلية، بل تأكد بما لا يدع مجالا للشك انه انطلاقة فعلية لحزمة من الإجراءات الحكومية الحقيقية الموجهة لدعم صغار الفلاحين والكسابة، والرفع من قدرتهم على مواجهة تبعات الجفاف، بما يعكس الرؤية الشمولية والاستباقية التي ميزت التدخل الملكي لمعالجة الأزمة من جذورها.
وتنفيذا للتوجيهات الملكية، أعلنت الحكومة من خلال اجتماع مجلسها يوم أمس عن تنزيل خمسة محاور استراتيجية تعتمد على مقاربات مالية وتقنية وتنظيمية جديدة، بميزانية مقدرة بـ 6،5 مليار درهم على امتداد سنتين، تميزت بشكل واضح بانحيازها الواضح لصالح صغار الفلاحين، باعتبارهم الفئة الأكثر تضررا والأكثر استحقاقا لتدخل الدولة، فالمحور الأول، الذي هم إعادة جدولة ديون مربي الماشية، يستهدف نحو 50 ألف كساب، حيث سيتم إلغاء 50% من الديون التي تقل عن 100 ألف درهم، وهي مبادرة تعني فعليا تخفيف العبء المالي عن 75% من المستفيدين، أي الغالبية الساحقة من صغار الكسابة.
ولم يقف الدعم عند حدود الديون، بل شمل أيضا دعما مباشرا لأسعار الأعلاف، عبر تحديد أثمنة بيع الشعير الذي لن يتجاوز ثمنه 1,5 درهم والعلف المركب بـ 2 دراهم، وهو ما سيقلص بشكل ملموس كلفة الإنتاج، ويعزز استقرار السوق، ويحمي الكسابة من تقلبات الأسعار والمضاربات التي كانت تستنزف قدرتهم على الاستمرار في النشاط، هذا بالإضافة الى القرار المتعلق بترقيم إناث الماشية ومنع ذبحها، مع تقديم دعم مباشر بقيمة 400 درهم عن كل رأس غير مذبوح، كمؤشر على بعد استراتيجي في البرنامج، يروم الحفاظ على التوازن الطبيعي للقطيع الوطني وضمان استدامته.
ما يمنح هذا البرنامج طابعه النوعي والمطمئن هو القرار بإسناد تنفيذ الدعم والإجراءات إلى السلطات المحلية، فهذا التوجيه الملكي جاء ليقطع مع التعقيدات المنطق السابق للدعم في الوسط القروي الذي كان يحول دون وصول الدعم إلى مستحقيه، فالسلطة المحلية بفضل قربها من الفلاحين واطلاعها على أوضاعهم الحقيقية، تشكل الآلية المثلى لضمان توزيع عادل وشفاف للدعم، بعيدا عن منطق الزبونية أو الهيمنة القطاعية.
بكل صدق القرار الملكي سيعيد الثقة للعمل العمومي في العالم القروي، ويؤكد أن الدولة حين تكون حاضرة بالتوجيه والرعاية، فالإجراءات الحكومية تكتسب فعالية ومصداقية، كما بعث برسالة قوية للفلاحين مفادها أن صمودهم ليس فقط موضع اهتمام، بل هو أولوية وطنية، تسخر لها الموارد، وتعبأ لأجلها المؤسسات، هذا التدخل الملكي لم يكن فقط جوابا على أزمة ظرفية، بل هو تدشين لمرحلة جديدة في علاقة الدولة بالعالم القروي، قوامها: الدعم العادل والتدخل الناجع والإنصات للفئات الصامتة التي طالما تحملت الأعباء في صمت.