لـم يكــن لِـيَـفْـجَــأَنا - نحـن أصدقـاء كمال عبـد اللّطيف - غيرَ أن نــراه صامــتاً أو ساهــماً أو لائــذاً بالحياد في أيّ مكــانٍ يلتـئـم فيـه جمـعُـنا وتـدور فيه أحاديـثُـنا؛ وما أكـثـر مـا هـي الْـتأمَــتْ في تلـك الأمكـنــةِ العديـدةِ المتـنـقِّــلة في الرّبـاط التـي كان يطيــب لنـا أن نُـقْهِــيَ فيهـا كــلَّ مســاءٍ لـزمــنٍ تَطَـاوَل وامتــدّ حتّــى قـارب الثّـاثيــن عاماً من المواظَــبة اليوميّــة. كان الإقـهــاءُ والاجتمـاعُ المسائــيُّ علـى فناجيــن البُــنّ طــقساً انــتحلناهُ لنا من أجــل البَــنِ في المــكان ومازَمـةِ الجماعــة واصطنــاعِ أســباب تبــادُل المعنــى بيــن أفـــرادٍ متـعــدّدي الأهــواء، ولكـن لا تـنــقُصهم هواجـسُ الاجتمـاع علـى مشتَــركٍ ولا الفضـولُ الإيجابيُّ للبحث عــمّا يَـرْتُــق مَــواطِن الفَـتْــقِ والنُّــقصان في أبعاضهم فــيلْحُمُها ويَـلْؤُمُها أو يصطنــع لهــا كلّـيّـــتها التــي تَــقْوى بهــا علــى الشّـــعور بالمَـــناقص. الكـــامُ حرفـتُـــنا في مجالــس الِإقـهـــاء نـــتداوله كمــا لــو أنّنــا نعـــزف المعــاني علــى آلاتٍ ومقامــاتٍ مختلفــة تنــظِّم فوضاها الجميلةَ حُـنْكَــةُ قائــد أوركستراها كمال. لأيٍّ مــنّا أن يُــمْسِك عن الكام لائـــذاً بصمـتٍ: يختــارُهُ أو يُـدْفَـــع إليــه عــن غيــر قصْـــد؛ ولــه أن يَــعْيَى أو تُـعْـــييه مَـتْعَــبَةٌ فاجئة، أو أن يَـسْهَــم سـهومَ شـاردٍ تأخــذُهُ الأسئلــةُ بعيداً عن المُــقام، وله أن يَــرْضى من غنيمة مداورَةِ الكامِ بالإيــاب - إلّاهُ وحــدَه الماســكُ بأزِمّــة المجالسة يحــرِّك خيوطها حاثّــاً، محــرِّضاً، معارضـاً، محالِـــفاً، مخـالِـــفاً، راكبـاً لِـهَــدْفه كــلَّ مَـرْكــبٍ مـــأمونِ المَسير، متـوسِّـاً كـلّ فـنون الشّـغْـب الجميل... التي ليس له فيها ضَـهِـيّ.
على اللُّـقــيا كـنّــا نَــظِب، عند كــلّ مغــيبٍ، وُظوبَ المـلتــزِم أَبَــدَا. ولقد كان يسعُ زيــداً مــنّا وعمــرواً أن يتـخلّــف عـن الموعـد المسـائيّ لمانـعٍ يمنعه مـن الوفـاء للمعهود. واحــدُنا الأوحـدُ المرابـطُ، أبـــداً، في المــكان المتواعَــدِ علــى اللُّـــقيا فيــه لا يَـبْرَحُـــه هــو كمــال. هــو أُثْـفـيّــةُ الأثــافي التــي تـعتـــازُها قِـدْرُنَـــا الجماعيّــةُ لِـتَـــتوازنَ انْــوِضاعاً علــى ثاثـــتها. ولأنّ المكـــانَ ناسُـــه، كان كمــال أَقْــدَرَنا علــى أن يَـهَــبَه (أي المــكان) سَـمْتَـــه الخاصّ وأن يَـنْـفُــث فيه روحــاً تسـمح بتَـمْرِئــةِ الجلسـةِ وتَطْرِيــة الكــام. يعرف، بخبرة العــارف الخبيــر، كيــف يستـفـــتح نقـــاشاً ربّمــا عَــزَف عنــه أكـثــرُنا وأَضْــرَب أوِ اختــار المُـجَــانبةَ لئاّ يُـفْـسِــدَ عليه غشيانُــه هــدْأةً تطلُــبها النّـفــسُ لها في جلسة الِإمساء. وكمن يُــصِرّ علـى تحويـل لحظـة الاستــرواح إلـى نقـيــشٍ لانتــداء يبـدأ في طبـخ شهيّــة الـكام والمداولَــةِ عليـه علـى نــار الإغــراء. ومـا أهـمَّــه، أحيانـاً، أن يسـتدرج المتحلّـقــين علـى قهوتهم ولو بتوسّــل دبّــوس اللّغة للهَـمْــزِ في مَن تَـمـنَّــع وأحجم، الأهــمُّ عنده أن يَـنــدلع حديـثٌ جماعـيّ ويضطــرم وطيـسُـــه. وكــم كان مألوفـاً عنــده أن ينتحــل لنفســه موقـــعاً وموقــفاً مضادّاً لمن يَـنْــصُبُ له أفخــاخَ التّـناظُــر. يفعــل ذلك بحــسٍّ سـقراطيّ مقصود متأنّـقــاً في أداء الـدّور المنـتَـحَــل لابسـاً لـه قـيافـتَــه. ومـا إنْ يَضَـح لـه أنّ جرعــةَ الخاف عَــلَتْ فـتاخمــتِ الاحتــدادَ ونَـكَـثَــتِ القـواعــدَ المألوفـةَ حتّـى تـراهُ هَرِعـاً إلـى التّــدارُك بتهدئــةِ مــا أَحْـفَـــظ وإطفــاءِ مــا أَضـــرم. كان يملــك أن يأخــذ المختصميــن، بيـــسرٍ، إلــى الِارْعِــواءِ عـن الانغمـاس في مـا شَجَــر بينهـم بمجــرّدِ أداء فعـل الانتــقال السّـلس بالجــوّ الجماعيّ من موضوعٍ إلى آخر ومن مـزاجٍ إلى مزاج.
سيـرتُــه في الحيـاة وفي دائـرة الأصدقـاء عيــنُها سيــرتُه مـع الفكــر. قـلّــما لاذ كمـال بالصّــمت أمام مسألةٍ مّــا في عــداد أمّـهات المسائل الفـكريّـة أو الاجتماعيّـة أو السّياسيّـة، وقلّــما رَكَــن فيهـا، عنـد طــرْقها، إلـى حيــادٍ يُـغطّــيه بالمشـهور مـن المزاعــم التـي يــلجأ إليهـا غيــرُهُ، في مثــل هـذه الحـال، مـن قبيــل الموضوعيّــة والْــتماس النّــظرة الوضعانيّــة ومجانَـــبةِ الانــزلاق في مطـبّ الإيديولوجيــا. كان لا يُبــدي التّـــردّدَ في التّـــصدّي لهــا متــى وَقَــرَ في خَــلَدِه يـقيــنٌ بأنّها مِـن أظهر مسائـل الفـكــر أو الاجتماع، وأنّ القـولَ فيها والرّأيَ ممّـــا ليــس منــه بُــدٌّ. يمــارس ذلــك بالتِّـلقـــاءِ وقــوّةِ السّـجيّـــة وبغيــر قـــليلٍ مــن الشّـعـــورِ بضغــط الرّغبـــة العميقــة في أن يرتــاد مــن الآفــاقِ الإشكاليّــةِ الجديــدةِ مــا لـــم تطـــأهُ بعـدُ أقـــدامُ غيــره مــن الَأضــراب والأتـــراب. ظـــلّ شــديدَ الوفــاء لفكــرة الالتـــزام المعــرفّي والاجتماعـيّ ومــا حــاد عنهــا نــزولًا عنـــد وطْـــأةٍ وضَـغْطـــة. التـــزامُه المعرفــةَ والفكــرَ
يُـظْـهِــرُه على أسئــلتهما المتجــدّدة والمنـهمــرةِ من غير انقطاع، ويحْمِله على مجالدتها؛ قـراءةً وكتابـةً والتزامُــهُ المجتمـعَ وقضايـاه يتــأدّى بـه إلـى المرافعـة الفكـريّــة عـن القيـم التــي بهــا ينـــتهض ذلــك المجتمــع ويَـسْمُـــق وإلــى التزامهــا مــن غيــر مقايضــة (النّهضــة، التّــقدّم، العـقانيّــة، الحداثــة، التّــحرّر الوطنـيّ، الوحـدة القوميّــة، الاشتراكيّــة...إلخ.) يشتغل بإيقاعٍ منتظمٍ فيـكتــبُ، من غيرِ مــكْثٍ أو إقامــةٍ في منطقــة الانتظار البرزخيّــة بين المقـروء والمكتـوب، التـي يمــدِّد فيهـا الكــثيرون إقامــاتهم فَـيَكُـفُّــهم الانتظـارُ عـن أداء طــقس الكتابــة. يكـتُــب ويُـنضِــج في الكتابة شـهيّــته للتّـنــفيل في الكتابة. فضوله الفـكريّ يَـعْصِــمه مـن ركـوب عـادات الكسـلِ والتّقاعُــس التـي ينْصـاب بهـا كــلُّ مـن رَكِـبَــهُ مَــسٌّ من وهْم «الإشباع المعرفيّ.»
وهـو في إتيـان فعْــلِ النّــقد، في ما يكــتبُه، وفي مناظــرةِ مَــن يقــف بالـرّأي في مُقَابِلِــه يسـير سيرتَــه بيـن أصدقائــه في قسمتِــه لهـم إلـى فُسطاطيْــن متناظريْــن. هكـذا كان يختار فســطاطَه في الوقــت عينِـــه الــذي يظــلّ فســطاطُ الوعــيِ المقابــل حاضــراً في ذهنــه، بــل واقعـاً تحـت وطـأة قــلَمٍ يُــنيخُ بكَـلْكَــلِ النّــقد الشّــديد عليـه؛ فالأشـياء، عنـد الرّجـل، لا تَبيـن وتَضَـح مـن تلقائهـا دائمـاً، وإنّمـا في مقابَــلةِ مـا ينتصـب نقيضـاً لهـا. هـذا معنـى أن يكـون النّــقد مائــزاً بيـن الصّحيـح والزّائـف وأن يُصْطَحَـب أبــداً في كلّ نظر؛ وهـو المعنى الـذي اعتـنــقه كمـال واشـتغل بـه. ظــلّ يفعـل ذلـك في الكتابـة كطــقْسٍ معـرفّي مألـوفٍ في غيـر حاجـةٍ إلـى تبريـرٍ أو تسـويغٍ أو تنظيـر. وهـو مـا أَلِــفَ هـذا الطّقـس المعـرفّي إلّا لأنّــه دَرَج عليـه منـذ شَــرَع في التّأليـف والنّــشر قبـل خمسـةٍ وأربعيـن عامـاً، فمارسـه بمـا هـو طقـسٌ يقـارب أن يكـون مـقــدَّساً لا كلعبـةٍ يطيـب لـه اللّـهْــوُ الجميـلُ بهـا مثلمـا اعتـاد أن يفعـل في جلسـاتنا المسائيّــة. ارتـاضَ علـى النّــقد منـذ البواكيـر واصطحبـه معـه عُــدَّةً لا تكـون الكتابـةُ إلّا بهـا وكأنّـه ريشتُــه والقلـم. وهـو جـرى، في مقروءاتـه، على معتـادٍ اتّخذهُ لـه سُنَّــةً: أن يقـرأ مـن نصـوص الفــكر مـا انتصـب منهـا تِرْياقــاً لِسُــمِّ البَداهـة في الوعـي. هكـذا خـرجَ مُحْتَطِبـاً مـن حقـول هـذه الصّحبـة المديـدةِ مـع العقــل كفايــتَه مـن المـوارد التـي يُــدفِئ بهـا صقيـعَ الوعـي في مواجهـة السّـؤال وأَرْأَسُ المـواردِ المغنومـة تلـك، كمـا نـــوّهنا، هـــو النّـــقدُ بوصفــه مَلَكَــة التّمييــز الفـــذّة بيــن المعقــول والاّمعقــول، الواقعــيّ والوهمـيّ، المعلـولِ والمفصـول عن كلّ علّــة: إنّــه مُفْـتَـتَــحُ كلِّ تــفلسفٍ وبُوصلتُــه التي بهــا يَــرُوز الجهــات في محيــط السّــؤالات المُطْلخِمّـــات ويهتــدي إلــى الأفــق المهــدوف إليه.