سعيد بنسعيد العلوي: الألم والأمل.. والقلم

سعيد بنسعيد العلوي:  الألم والأمل.. والقلم كمــال عبــد اللطيــف (يمينا) وسعيد بنسعيد العلوي
نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب وتراث المتوسط " ومؤسسة فهارس لخدمات الكتاب، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات والشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان: "التنوير أفقا" قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية . تنشر "أنفاس بريس" النص الكامل لمساهمة الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي التي أختار لها كعنوان: "الألم و الأمل... والقلم".
 
السيد المحترم رئيس المصالح الإدارية والشؤون الفكرية تحية واحتراما، وبعد
أعـترف بدايــة أننــي أتوجــه لســيادتكم بالخطــاب، وأنــا خلــو مــن الصفــة التــي تجعـل منـي مخاطِبـا ( بكسـر الطـاء) شـرعيا، فلسـت مرؤوسـا إداريـا ينتمـي إلـى إحـدى المصالـح الإداريـة والفكريـة التـي يـؤول إليكـم أمـر تدبيـر شـؤونها. لكننـي أود أن أتقـدم لكـم بمـا قـد يصـح اعتبـاره، في لغـة الإدارة، تقريـرا أو مراسـلة. وإذا كنـت حقـا لا أمتلـك الصفـة التـي تخـول لـي التوجـه إليكـم بالخطـاب،  وكان بالتالـي مـن حقكـم أن تضربـوا برسـالتي هـذه عـرض الحائـط، فـإن حرصكـم الأكيـد علـى معرفـة أحـوال رجـال ونسـاء مصالحكــم، والنابهيــن منهــم علــى وجــه الخصــوص، تجيــز لــي القــول بــأن صدركــم يتسع لتقبل حديثي. 
 
يتعلــق الأمــر، ســيدي رئيــس المصالــح الإداريــة والشــؤون الفكريــة، بالســيد كمــال عبــد اللطيــف الأســتاذ في كليــة الآداب والعلــوم الإنســانية، والباحــث المرمــوق. لســت أشــك أن مصالحكــم الإداريــة تتوافــر علــى معرفــة دقيقــة موثقــة بالمســار، الــذي عرفتـه الحيـاة الإداريـة للموظـف كمـال عبـد اللطيـف: بالمراحـل التـي مـر بهـا أسـتاذا في إحـدى كبريـات ثانويـات الـدار البيضـاء، حيـث درس بهـا سـنوات عـدة، قبـل أن يلتحـق بالجامعـة متدرجـا في المراتـب العلميـة والإداريـة، كمـا هـو مبيـن في جـداول مصالحكـم الإداريــة، وموثــق في ذاكرتهــا بالبيانــات الدامغــة. ومــن الطبيعــي أيضــا أن المصالــح
 
الموكــول إليهــا الإشــراف علــى الشــؤون الفكريــة تتوافــر علــى معرفــة ضافيــة بالباحــث الســيد كمــال عبــد اللطيــف، فالرجــل باحــث نابــه بمــا راكمــه مــن دراســات وكتــب منشـورة، عـدا حضـوره في العديـد مـن المنابـر الثقافيـة داخـل الوطـن وخارجـه. وبالتالـي فـإن مـن تحصيـل الحاصـل (كمـا يقـول المناطقـة والفاسـفة مـن زمـاء الأسـتاذ كمـال عبــد اللطيــف)، أن تكــون لكــم بالأســتاذ المذكــور المعرفــة الدقيقــة الشــاملة، مدعمــة بالبيانــات والجــداول والأرقــام والمعطيــات التامــة، في المجاليــن المهنــي، وبالتالــي الإداري، وكـذا الفكـري فأنتـم، بالتالـي، في غنـى عـن مزيـد بيـان. ولهـذه الأسـباب التـي ذكــرت، وكــذا لغيرهــا ممــا لــم أذكــر أو، بالأحــرى، ممــا لســت أعلــم، فــإن حديثــي- في هـذه الأوراق أو في هـذه المذكـرة أو التقريـر أو مـا شـئتم مـن النعـوت- ممـا تقـدرون أنـه النعــت الأنســب، وأنــه الأحــق بالذكــر وبالتنبيــه إليــه، فإننــي لــن أحدثكــم عــن الأســتاذ كمــال عبــد اللطيــف المعــروف لــدى مصالحكــم. أود، ســيدي المحــترم، أن أحدثكــم عن كمال عبد اللطيف المجهول: كمال عبد اللطيف «الآخر.»
 
نعـم، سـيدي الفاضـل المحـترم، أرغـب في الحديـث إليكـم عـن الرجـل الـذي ليـس لـه ذكـر في السـجات العتيـدة لمصالحكـم، الإداريـة منهـا والفكريـة علـى السـواء. غيـر أن كمـال «الآخـر» أو كمـال «الغيـر» (كمـا يقـول أصحـاب أصـول الديـن أو علمـاء الـكام المسـلمون) ليـس علـى وجـه التدقيـق السـيد كمـال عبـد اللطيـف المثبـت اسـمه في ســجاتكم. إن المســجل عندكــم ليــس ســوى المرئــي أو الظاهــر، وأمــا غيــر المرئــي المختفــي (وأكاد أقــول: المتنكــر) فــا علــم لكــم بــه إلا مــا كان توهمــا وظنــا. وأنتــم، سـيدي المحـترم، تعلمـون أن التوهـم والظـن يسـيئان  للرؤيـة، ويشوشـان علـى المعرفـة الصحيحــة، ممــا لا يليــق بمقامكــم، وحــزم ومصداقيــة المصالــح الموكــول مراقبــة أحوالهــا إليكــم. الباطــن أو الخفــي، يثــوي في جــوف صاحبنــا، ويســكن حنايــا صــدره ويلــف شــغاف قلبــه، (وأستســمح ســيادتكم في اللجــوء الــى هــذه العبــارات الغريبــة المرعبــة التــي لا تمــت بصلــة إلــى القامــوس الإداري، ولا تجــد لهــا مكانــا في جديــة وحــزم الضبــط الإداري والتدقيــق القانــوني، غيــر أني لا أجــد لهــا بديــا حيــن الحديــث عن السيد كمال عبد اللطيف «الآخر» أو «الغير.)»
 
سيدي المحترم، رئيس المصالح الإدارية والشؤون الفكرية
 
أقـدر أننـي قـد اقتطعـت الكثيـر مـن وقتكـم الثميـن، ولكننـي أطمـع في المزيـد مـن كريــم حلمكــم، فأضيــف أننــي لا أملــك، آســفا، أن أخبركــم عــن حقيقــة كمــال عبــد اللطيــف الغيــر أو الآخــر في قــول دقيــق موجــز، غيــر أن في الاســتطاعة، أن أدلكــم علــى مجموعــة مــن العامــات الكفيلــة  برســم صــورة الرجــل. وأعدكــم أننــي ســأوجز القــول فيهــا إيجــازا شــديدا في إشــارات أو «أمــارات» (وأستســمحكم، مــرة ثانيــة، في اســتعارة اللفظ من التراث العربي في العصر الكاسيكي، من قاموس أصول الفقه تحديدا).
 
لعـل الأمـارة الأولـى، والأكثـر أهميـة في الإخبـار عـن السـيد كمـال عبـد اللطيف، هــي أن الرجــل لايقيــم للســن اعتبــارا في الحديــث عــن العمــر. أقصــد أنــه يفصــل بيــن السـنين (وهـذه تكـر وتتعاقـب) وبيـن العمـر، وهـذا شـعور باطنـي وأمـر يتعلـق بالـروح- وهــذه لا تتغيــر ولا تقيــم لمنطــق الســن أو العمــر الزمنــي معنــى. فديــدن كمــال عبــد اللطيف هو قول الشاعر العربي، وقد نظر قبل سنوات في دفتر الحالة المدنية:
 
عمري إلى السبعين يمضي مسرعا والــروح ثــابـــتـــة في العــشـــريـــن
 
لا اعتبـار لعمـر زمنـي في ذكـر الشـيخوخة فهـي»لا تقـترن بسـن محـددة، فكـم مـن الشــيوخ يتمتعــون بمزايــا الحيويــة والشــباب والإنتــاج. وكــم مــن الشــباب يعانــون مــن أمـراض الشـيخوخة والوهـن.  إنهـا حالـة نفسـية رغـم ارتباطهـا بمكونـات ماديـة (عيـون الموناليزا-الصفحتــان .)104/105 مــن تلــك المكونــات الماديــة حــدوث «ثقــوب في الذاكــرة في الأســماء والأماكــن والأشــخاص»، ومنهــا صعوبــات «التأقلــم مــع جســم لــم يعــد يمتلــك الكفــاءات التفاعليــة التــي امتلــك مــن قبــل مــع ذاتــه ومــع العالــم.» يعــدد صاحبنــا، في هــذا الصــدد أمثلــة كثيــرة بليغــة، فعقلــه أو قــل إدراكــه مــن جهــة العقــل، يجعلـه في درجـة عاليـة مـن الواقعيـة والوضـوح. ولكـن للـروح منطقهـا، وإليهـا وحدهـا يرجع تقدير العمر ودلالته فهو ينشد مع الشاعر:
 
عــمــري بـروحي لا بعــدد سـنـيني فــلأهــــز أن غـــدا من الــتــســعــين
يســخر صاحبنــا مــن «الأمــارات» الدالــة علــى شــيخوخة البــدن ســخرية كبيــرة (مثــل البــطء الشــديد  في المشــي، والخشــية مــن الســقوط أرضــا، ومــن ثــم الاتــكاء علــى العصـا أحيانـا.)لا، بـل إنـه يـرى للشـيخوخة مزايـا في بعـض الأحيـان: منهـا التنعـم بلـذة البطـيء الشـديد في الإفطـار، وفي التنعـم باشـتمام ريـح الفاكهـة ومامسـتها، ومنهـا القدرة علــى رؤيــة مقــدم الصبــاح وحلــول المســاء، بأعيــن جديــدة تســعى إلــى اخـتراق الســحر الـذي يكمـن فيهـا، ومنهـا القـدرة علـى الانتشـاء بتعاقـب الفصـول. لا، بـل إن صاحبنـا، في ذلـك كلـه، يتغنـى بصبـوات الشـيخوخة، فهـو يحمـد تلـك الصبـوات، فيلهـج بذكرهـا «ومــا أجمــل صبــوات الشــيخوخة حتــى عندمــا تحضــر كأحــام ومتمنيات(»...عيــون الموناليــزا.)-103 يكتــب صاحبنــا، متنعمــا ومتحدثــا، عــن إيقــاع الألــوان في فصــل الربيـع، مثلمـا يكتـب متنعمـا ومتحدثـا عـن «متـع ومباهـج الخريـف»، فيجـد في مـا يقـول ويكتــب متعــة ولــذة، بــل إن للكلمــات طعــم إذ تتحــدث بذلــك. لذيــذ هــو «طعــم الكلمــات-» ولذلــك فهــو يرصــع بذلــك الطعــم غــاف أحــد كتبــه، فيجعلــه عنوانــا لكتــاب لذيــذ الطعــم، طيــب الرائحــة. ثــم إن صاحبنــا، في الحديــث عــن فصــل الشــتاء، يسـتحضر القصيـدة الشـهيرة (نشـيد المطـر)، لمعشـوقه  بـدر شـاكر السـياب، فهـو يتغنـي مثلــه بــ «أناشــيد المطــر:» «يتســاقط أمامــي دون انقطــاع، رذاذه المتطايــر يرتطــم بزجــاج نافذتي(»...طعــم الكلمــات – ص .)86 هــي الــروح «الثابتــة في العشــرين»، تعــدو في الحقـول المونقـة خلـف الفراشـات، تعشـق قطـر النـدى في الإصباحـات الربيعيـة العطـرة ترنـو اليهـا «حيـن تسـتقر شـفافة فـوق أوراق الـورود.» وكذلـك يتسـاءل كما عبـد اللطيف في عتــاب لســائله وفي اســتنكار منــه، في الوقــت ذاتــه إذ ســأله عــن عشــقه لقطــر النــدى: «هـل فهمتـم سـبب عشـقي لقطـرات النـدى؟.» والحـق أن العشـق لا يفهـم سـره، وإنمـا يملــك العاشــق وحــده أن يقــع علــى ســره- وكذلــك كان تفضيــل صاحبنــا في الــورود للون الأبيض على غيره من ألوان الورد الأخرى.
 
ولعـل الأمـارة الثانيـة التـي تشـي بالحضـور القـوي لصاحبنـا كمـال عبـد اللطيـف «الغيــر» (وليــس للترتيــب أهميــة في معــرض حديثنــا هــذا)، هــي تلــك التــي أجدهــا في حديــث الرجــل، في مــا كتبــه أو أمــاه عقــب الهــزة الجســمانية التــي أصابــت جســمه، ونالت منه سوءا كبيرا.
 
«في ذلــك الصبــاح الــذي تميــز بحــدوث انفــات وســقوط القلــم مــن بيــن أصابعــي، وأنــا منخــرط في الكتابــة، بــل منخــرط في التفكيــر بواســطة يــدي، ســقط القلــم مــن بيــن أصابعــي علــى الــورق، وفي تلــك اللحظــة بالــذات لــم يصــدر أمــر يجعــل اليــد التـي انفلـت القلـم مـن بيـن أصابعهـا، تحمـل هـذا الـذي سـقط في رمشـة عيـن كمـا جـرت العــادة، بــل وقــع أمــر آخــر لا يوصــف بالكلمات-حتــى عندمــا تصفــه الكلمات(»طعــم الكلمات - الصفحتان 18&17).
 
حــم القضــاء. قــرع الطبــل عاليــا إيذانــا بحــدوث زلــزال هــادر مدمــر. «وقــع أمــر آخــر لا يوصــف  بالكلمــات- حتــى عندمــا تصفــه الكلمــات.» وإذ يلجــأ كمــال عبــد اللطيــف إلــى العقــل، ليستفســر عمــا حــدث، فــإن العقــل يحدثــه عــن أمــر «لــم يصــدر» عنــه، بــل ربمــا كان الأمــر قــد صــدر، ولكــن عــن اليــد حــدث عصيــان. عصيــان ســيحيل اليـد، في الادراك الباطـن لليـد ومعناهـا ووظيفتهـا، الـى كائـن غريـب. كائـن غريـب «بـل أصابـع أخـرى تحتـل موقـع اليـد اليمنـى.» أمـر لا يوصـف بالكلمـات، حقـا، وإن تحدثت بــه الكلمــات. القلــم فعــل مــا لا يقــدر علــى فعلــه ســوى» ســاحر عليــم.» ســاحر يمتلــك  القـدرة علـى تكسـير ترتيـب الكلمـات والمعـاني وإعـادة ترتيبهـا، في لمـح البصـر أو أسـرع مــن ذلــك، ترتيبــا جديــدا. اســتطاع  القلــم أن يعبــث بالألــم، ألــم الهديــر والعصيــان، عصيــان اليــد، وألــم احتــال يــد أخــرى- غيــر شــرعية- مــكان اليــد اليمنــى. اســتطاع السـاحر-القلم أن يعبـث بترتيـب حـروف الألـم، فيحيـل الألـم الـى أمـل. أمـل يولـد مـع ميــاد إنســان جديــد، متجــدد اســمه كمــال عبــد اللطيــف. جبــار هــذا الإنســان الجديــد الـذي يولـد، يعبـث بالعصيـان والعاصـي معـا. لا يكشـر في وجهـه، لا يسـبه ويلعنـه، فهـو عفيـف اللسـان، مبتسـم دومـا في وجـه الناظـر اليـه. وجـه الموناليـزا في عليائهـا وسـحرها  معــا. تنفــرد، مــن بيــن  كل المخلوقــات الآدميــة، بالســمة العظيمــة. الســمة القــادرة علــى ماحقــة الناظــر إليهــا مــن أي ركــن أو زاويــة يكــون قدومــه وموقعــه. وفي لغــة الحســاب الهندســي يمـلأ بصرهــا، في اللحظــة الواحــدة، مائــة وثمانيــن درجــة- دون أن تكــون في حاجــة إلــى الالتفــات يمينــا أو يســارا. تاحــق الناظــر إليهــا، تخترقــه  بابتســامتها الثابتــة. روح في العشرين، تسخر بالسنين والأعوام.
 
يقـترن ميــاد البطــل، في مســرحيات صوفوكليــس بحــدث جلـل. زلــزال عنيــف مدمــر. أمــر يحيــل كل الذيــن كانــوا يعتــبرون مخلصيــن وصادقيــن إلــى خونــة كذبــة، يسـتوجبون الاجتثـاث مـن الوجـود. ويـردد لا مارتيـن أنـه لا شـيء يخلـق إنسـانا عظيمـا مثـل ألـم عظيـم. لكـن كمـال الـذي انشـغل في حياتـه الجامعيـة، مدرسـا، بأمـر الميتـوس واللغـوس لا يعنيـه أمـر البطولـة والبطـل، فهـو منشـغل بأمـور أخـرى عديـدة، تمـلأ نظـره وسـمعه وفكـره وتسـكن وجدانـه فتسـتقر منـه في السـويداء. وكمـال عبـد اللطيـف يكـره الألــم، ولا يــرى فيــه قرينــا للتلــذذ. لا مارتيــن، وكل الرومانســيين في الواقــع، يعشــقون البــكاء، وكمــال بعيــد عــن الرومانســية مــن حيــث إنهــا مذهــب وعقيــدة، وليــس كمــا يتحــدث عنهــا المتحدثــون، فهـو يفهمهــا خافــا لهــم، بكونهــا شــغفا بالنظــرة الســاحرة والملمــس الناعــم، ملمــس التفاحــة والــوردة وبقطــرة النــدى تســيل فــوق خــد الــوردة البيضــاء في اليــوم الربيعــي المرصــع بألــوان الطيــف كلهــا. مــن صوفوكليــس ومــن لا مارتيــن، معــا، يهــرب كمــال عبــد اللطيــف. يجيــد صاحبنــا لعبــة الهــروب وتصريــف الفعــل في صيغــه كلهــا. صــادق هــو، موفــق هــو إذ نعــت نفســه بالهــارب ونعــت أمــره  بالهــروب. فالســفر هــروب، والتنقــل بيــن الكتــب هــروب، وارتيــاد الحدائــق هــروب. وإذا كان للصداقـة التـي تربـط بيننـا منـذ مـا يربـو اليـوم علـى نصـف العقـد مـن الزمـان أن تكســبني الحــق في إبــدال النعــوت، في الحديــث عــن هــذا الهــروب. في الحديــث عــن الهــارب كمــا أقتبــس مــن اللغــة العربيــة، التــي يعشــقها عاشــق الــوردة البيضــاء تتراقــص فوقهــا حبــات قطــر النــدى، فإننــي أتحــدث عــن الفــرار، لا عــن الهــروب. ومــن جمــال القــول العربــي أن الفــرار، يكــون مــن الشــيء مثلمــا يكــون فــرارا إلــى الشــيء، وفي آيــة جميلــة مــن آي القــرآن الكريــم، يخاطــب الله المؤمنيــن فيقــول: «ففــروا الــى الله(»الذاريــات.)50: يفــر كمــال إلــى الســفر، فهــو يحدثنــا عــن «متعــه التــي لا تعــد ولا تحصــى» (طعــم الكلمــات.)-49 والســفر، في قامــوس صاحبنــا أنــواع وألــوان «فقــد أصبحــت أســافر بأشــكال عديــدة، حيــث ألجــأ بيــن أهلــي وداخــل بيتــي ومدينتــي وفي مكتبـي لركـوب مطايـا عديـدة تنقلنـي بكثيـر مـن السـحر والخفـة والسـخاء، إلـى مواصلـة تحصيل متع أخرى من أسفاري الافتراضية والمتخيلة.»
 
أحسـب،  سـيدي المحـترم رئيـس المصالـح الإداريـة والشـؤون الفكريـة، أننـي قـد انتزعــت مــن وقتكــم الثميــن حيــزا غيــر قليــل، بيــد أننــي، فيمــا أرجــو وأقــدر، قــد نبهــت إلــى مــا فيــه الــكافي والمفيــد مــن الأمــارات في التدليــل علــى المامــح البينــة في صــورة الســيد كمــال عبــد اللطيــف الآخــر أو الغيــر. علــى أني، في ختــام هــذا الإرســال أنبــه سـيادتكم إلـى أن مـن شـأن كل محاولـة للإمسـاك بصاحبنـا وإقسـاره علـى اتخـاذ موقـع في سجات مصالحكم الإدارية والفكرية تظل عرضة للفشل.
 
سعيد بنسعيد العلوي، أستاذ فخري في جامعة محمد الخامس بالرباط