بدا كطفل ضائع في صحراء جرداء، تتقاذفه أمواج التيه، ويتلمس طريقه.
منذ صغره وهو يشعر بأنه مختلف عن بقية أطفال القرية. يرتاد معهم المسيد، يسابقهم في الحقول، ويلاعبهم بين الأحراش، إلا أنه لا يفكر كما يفكرون، ولا يتأثر بما يتأثرون به. لا شيء في هذا العالم يهزه ويستثير ذهنه، غير السعي لطلب العلم بحرقة. حفظ القرآن عن ظهر قلب في سن مبكرة، ثم بعد ذلك، "خنش" في دواوير مجاورة ليدرس علوم اللغة، ملتهما آلاف من أبيات شعر الألفية والآجرومية. طفل نابغة!
جلس علي في فناء الدار تحت شجرة التين، يجيل بصره في كل زاوية، يرنو إلى السماء، يشرد بخياله في أفق بعيد، ويفكر بعمق، محدثا نفسه: وماذا بعد؟
بعد هذا بأيام، كانت فكرة الهجرة قد اختمرت في رأسه، سرعان ما التمعت في خاطره فكرة مغادرة قريته، فمضى يضرب في الأرض ضربا، جائلا في البلاد طولا وعرضا، إلى أن حط الرحال في قرية صغيرة تسمى شاذلة ببلاد إفريقية، تتلمذ على يد مشايخها، أمضى فيها سنون عديدة يمتح من علومها. سيصير لها شأن عظيم بعد ذلك.
قدم الطفل علي من جبال الريف شمال المغرب، ومن قبيلة غمارة تحديدا. لم يكن الوضع في البلاد مستقرا، إذ عايش فترة صعبة، حبلى بتداعيات هزيمة المغرب في معركة العقاب بالأندلس. عرفت البلاد على إثرها انقساما حادا وضعفا مريعا للسلطة المركزية. تعقبها مباشرة بداية تفكك دولة الموحدين، وتقهقر حكمهم، فتفشى البؤس وعمت الفتن، حتى ظهر الغاوون في الأسواق والدجالون في منطقة غمارة.
لم يكن ليهدر وقته وجهده في صراعات قبلية وتفاهات دنيا زائلة.
أحس بالزمن يطارده وهو في مقتبل ربعه الأول من العمر. كان للتو قفل العشرين. أصبح الشاب علي غير مدرك لسرعة الوقت التي انقضت، وهو غارق في تحصيله العلمي بتونس.
تطلع الفقيه الباجي برفق إلى وجه مريده الملهوف، ثم خاطبه بثقة العارف بالله: يا شاذلي، هذه البلد لا تتسع لذهنك ولن تشبع روحك، فسافر. لم يعد لدي ما أعطيك إياه، اذهب إلى أرض العراق لعلك تجد فيها ضالتك، يقال أن فيها عالم زاهد متصوف لا يشق له غبار.
لم يتردد المريد في جمع زاده ومتاعه، وامتطى راحلته طاويا طريقه نحو بلاد الرافدين في سير طويل ومضني، يبحث عن شيخ ذائع الصيت، إمام زمانه، شيخ العارفين أبي الفتح الواسطي.
وصل الشاذلي بغداد، فألفى المسجد يعج بالحركة والرواد، يتوسطه شيخ وقور بعباءة سوداء، معتمرا عمامة بيضاء، يعتلي أريكة من خشب، ويتحلق حوله مريدون معظمهم شباب. لبث يحدق في المشهد من أمام عتبة الباب وقد انتزع منه دهشته. أبهرته هيئة الفقيه. سرعان ما انتابه بعض التردد، ثم همس في نفسه: لعله الشيخ الواسطي الذي ملأ صداه ربوع الأرض، كان قد سمع عنه الكثير. ما لبث أن استجمع قوته ليندفع بحماس مخترقا صفوف المجلس حتى وصل المقدمة. تقرفص فوق الحصير، وظل يصغي إلى الشيخ بإمتاع وإعجاب. كان كمن يمسك بجمرة ملتهبة في يديه، يتحين فرصته عند ختام الدرس ليقترب منه ويحدثه.
ما أن عرف بنفسه وأصله حتى عرض على الشيخ حاجته قائلا:
- يا مولانا، جلت في بلاد الغرب والشرق لكن نفسي اطمأنت إليك. جئتك باحثا عن قطب تتجمع فيه جميع صفات الأقطاب، يعينني على سلك الطريق نحو الكشف الرباني، هلا قبلتني مريدا عندك؟
نظر إليه الشيخ نظرة طويلة فاحصة، ثم رد عليه:
- إذا كنت حقا تريد تحقيق رغبتك فعد من حيث أتيت، أخبرك أن القطب الذي تبحث عنه موجود في موطنك الأصل، اذهب إلى جبال بني عروس، وستجده معتكفا في مغارة هناك.
ظل الشاذلي مبهوتا مما سمع، فما لبث أن استدار وقفل عائدا إلى بلده الأصل.
قطع مسافات طويلة مخترقا غابات موحشة وجبال وعرة. لم يكترث كثيرا لأهوال الطريق ومخاطرها مادام الهدف ملهما وعظيما. كل ما كان يجول في خاطره طوال الوقت، هو كيف الصعود إلى مغارة قابعة أعلى جبل العلم، حيث يقطن القطب الرباني مولاي عبد السلام.