لا يمكن لأي باحث في قضايا الصحافة والإعلام، في تاريخ المغرب الحديث، أن يتجاهل الدور الذي لعبته النقابة الوطنية للصحافة المغربية، منذ أن تأسست سنة 1963، حيث ساهمت بشكل متميز في الحركية التي عرفها هذا الحقل، سواء في دفاعها عن حرية الصحافة والرأي، أو في وقوفها القوي لحماية الصحافة الوطنية.
ففي مختلف التطورات التي شهدها حقل الصحافة والإعلام، سجلت هذه النقابة حضورها كفاعل أساسي، حيث قاومت التراجعات التي شهدها المغرب، في سنوات الرصاص، بخصوص قانون الصحافة والنشر، واستمرت في مطالبتها بحذف الرقابة على الصحف، وتمكنت بعد مسلسل قضائي طويل، من طرد صحافة "ماص" الاستعمارية، التي حولها الملك الراحل الحسن الثاني، بعد ذلك، إلى مجموعة "ماروك سوار.
لقد استمرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، حاضرة وفاعلة، رغم الظروف السياسية الصعبة، التي عاشها المغرب، التي أدت إلى اعتقال ونفي عدد من قادتها، بفضل التلاحم والتضامن القوي، بين مكوناتها، التي كانت تجمع بينهم الروح الوطنية والقيم الأخلاقية الراقية.
ويذكر جمال محافظ، في كتابه "الصحافيون المغاربة، والأداء النقابي في الاعلام"، أن علال الفاسي الذي كان يرجع له الفضل في فكرة تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كان يرى أنه يتعين على هذه المنظمة أن تذهب أبعد من إدماج المكونات الحزبية والنقابية للحركة الوطنية، بل كان يقول بحتمية إضافة الصحافة المستقلة وصحافة رجال الاعمال. وهو ما تم العمل به، حيث أشرف عبد الرحمن اليوسفي، على التحضير لعملية التأسيس، وعند أول اجتماع للمكتب، تدخل ليطلب الاستغناء عن الاقتراع السري، لاختيار الكاتب العام، واقترح أن يتولى هذه المسؤولية، الكاتب الصحافي، عبد الكريم غلاب، عن جريدة "العلم"، كرمز للصحافة الوطنية. حصل كل هذا في عِزّ الخلاف السياسي بين حزب الاستقلال، وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وتكرر هذا الموقف، بشكل آخر، عندما تم تكليف محمد اليازغي، بالكتابة العامة لهذه النقابة، سنة 1984، حيث اعتبر أعضاء المكتب، آنذاك، أن توليه هذه المسؤولية، تعبير منهم عن التضامن مع جريدتي "المحرر" و "ليبراسيون" اللتين منعتا خلال الإضراب العام وأحداث الدار البيضاء، لسنة 1981. ولم يكن المكتب الوطني للنقابة في تلك الفترة يتشكل من أغلبية الصحف التي تنتمي لما كان يسمى بالصف الوطني الديمقراطي.
توالت على النقابة الوطنية للصحافة المغربية، أجيال من القادة والأطر، ساهمت كلها، نساءا ورجالا، في مواصلة رسالتها، حيث ساهمت بشكل متميز في المناظرة الوطنية الأولى للإعلام، سنة 1993، التي شغل محمد العربي المساري، منسقها العام، وكان يتحمل مسؤولية الكتابة العامة للنقابة المذكورة، بعدها جاءت محطات وطنية أخرى، مثل مناظرة الصخيرات سنة 2005، والحوار الوطني "الإعلام والمجتمع"، سنة 2010، حيث كانت مساهمة هذه النقابة أساسية.
تواصلت هذه المسيرة النضالية في للدفاع عن حرية الصحافة وعن الخدمة العمومية في الاعلام العمومي، وغيرها من المطالب الديمقراطية، ونظمت هذه النقابة إضرابات واحتجاجية، إلى حدود السنوات الأخيرة الماضية، حول العديد من المطالب والقضايا، وتمكنت من فتح حوار شامل مع المسؤولين في كل القطاعات، لذلك نجحت في تحقيق العديد من المكتسبات. وحظي موضوع أخلاقيات الصحافة بأهمية قصوى في عملها، حيث حققت تراكمات في هذا المجال، توجت بالتجربة التأسيسية للتنظيم الذاتي للمهنة.
كما ظلت التقارير السنوية، التي تصدرها بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، مرجعا لا محيد عنه لمتابعة تطورات الصحافة والإعلام في المغرب، ناهيك عن الأدوار الطلائعية التي لعبتها على صعيد المنظمات الدولية والإفريقية والعربية. ولم يكن هذا ليتم، لولا أسلوب العمل الجماعي، واحترام الديمقراطية الداخلية، والالتزام بمنهجية التعددية والحق في الاختلاف، وإلى عهد قريب تواصلت صناعة خاصية هذه الهيئة، التي هي عبارة عن قوس قزح، الذي لم ينبثق عفويا، بل جاء بالوفاء للتاريخ وللروح الديمقراطية والتضحية والترفع.
إن حياة التنظيمات وحركيتها الداخلية، تخضع للمد والجزر، وخصصت لهذه الظاهرة دراسات وأبحاث في علم الإجتماع، من أهمها كتاب "الفاعل والمنظومة"، الذي أنجزه كل من أرهارد فرايدبيرغ وميشيل كروزيي، الذي يعتبر أنه يجب على الأفراد اكتساب قدرة جماعية خاصة، لإدارة الصراعات الداخلية التي تتيح لهم التنظيم بشكل أفضل، وعلى المنظومة تطوير نفس القدرات، لكن هذه القدرة التنظيمية ليست بنفس القوة لدى جميع أعضاء المنظمة، وذلك حسب لعبتهم الخاصة. تسمى هذه المهنجية التحليل الاستراتيجي، إذ تعتبر أن الإنسان هو الذي يجب أن يتحمل المسؤولية الأولى في التغيير، لأن هامش الحرية الذي يتمتع به يجعله مسؤولا، ويمكنه أن يؤثر في المنظومة.
لذلك فإن التطورات التي يمكن أن تشهدها المنظمات النقابية والأحزاب السياسية، قد تكون إيجابية أو سلبية، حسب أدوار الفاعلين فيها، فليس هناك خط منتظم للتقدم، في التاريخ، بل هناك أيضا خط التراجع والنكوص، فالتغيير التاريخي ليس تراكميا، كما يقول الفيلسوف ميشيل فوكو، بل هو عبارة عن قطائع لا متصلة، أي أن اتجاه التقدم نحو الأفضل ليس حتميا، بالضرورة.