تأملات مُعلّمةٍ لاحقها فشل الكليتين
في صباحٍ من صباحات مارس المعتدلة، كانت المدرسة تفيض بضحكات الأطفال، وصدى الحقائب الجديدة، وعطر البدايات المفعمة بالأمل.
وفي الزاوية الهادئة من قسم السنة الثانية إبتدائي، كانت المعلمة سليمة، ذات الثمانية والعشرين عامًا من التفاني، ترتّب الدفاتر بنظرةٍ لا يملكها سوى من وهب قلبه للتعليم.
لم تكن تدري أن ذلك اليوم سيكون آخر أيامها في القسم، دون أن تشعر بأنها سجينة عدّ تنازلي لا يرحم...
عدّ بدأ منذ زمن، حين صعد ضغطها الدموي بهدوء، مثل لصٍّ يحترف التسلل إلى الأرواح.
قالت عنه مرارًا: "ضغط وظيفي... عابر"، ورفضت الأدوية، وارتضت بالنعناع والبابونج والمشي يوم الأحد.
أما داؤها "السكري"، الذي شُخّص قبل خمس سنوات، فقد اعتبرته مجردَ " قليل من السكر في الدم... لا يستحق القلق ".
لكن الجسد لا ينسى... أبداً.
في ذلك اليوم من شهر مارس، وبينما كان الأطفال يزينون جدران الفصل لاستقبال الربيع، أحسّت سليمة بتعبٍ لا يُحتمل، ودوخةٍ وغثيانٍ وضيق في النفس.
ظنّته إرهاقًا.
لكن الحقيقة كانت أعمق: كليتاها توقفتا عن أداء واجبهما.
التحاليل صرخت: ارتفاع كارثي في اليوريا والكرياتينين، وفقر دم شديد.
التشخيص كان صارمًا: فشل كلوي مزمن في مرحلته النهائية.
كليتاها تعطّلتا... إلى الأبد.
أُدخلت إلى المستشفى على عجل، وركّب لها الأطباء قسطرة للغسيل الكلوي، بانتظار وصلة شريانية وريدية.
بكت.
صرخت.
أنكرت.
كيف لهذه المرأة القوية، لركن المدرسة، أن تُوصَل بجهاز أربع ساعات، ثلاث مرات في الأسبوع، مدى الحياة؟
كانت الصّدمة أكبر من أن تكون طبّيًة فقط؛ كانت وجوديًا واجتماعيًا ونفسانيًا.
أُجبرت على مغادرة الفصل، وعلى مغادرة جزء من ذاتها.
في كل صباح منويوم الاثنين، والأربعاء، والجمعة، تستقل سيارة أجرة نحو مركز تصفية الدم.
وهناك، ترى "الموصولين بآلة تصفية الدم " أمثالها، شبابًا وشيوخًا، كلهم ضحايا صامتون لثنائيٍ خبيثٍ أهملناه كثيرًا: ارتفاع الضغط والسكري.
فهمت متأخرةً أن الإشارات الصغيرة – الأرجل المتورمة، الصداع المتكرر، قلّة التبوّل، التعب المزمن – لم تكن عابرة.
وأن الفشل الكلوي لا يطرق الباب فجأة، بل يأتي زاحفًا، صامتًا، منتظرًا لحظة الانقضاض.
هو الابن العاق والممتثل للإهمال... ، لا يرحم .
اليوم، تكتب سليمة.
تحوّل ألمها إلى رسالة.
تزور المدارس، والمراكز، والمساجد، وتحكي قصتها لتوقظ النائمين.
وتقول:
> "لو أنني أنصت، لو أنني تناولت علاجي، لو أنني قست ضغطي وسكّري بانتظام... لكنت اليوم في فصلي، بين صغاري.
وتختم، غالبًا، بجملةٍ بسيطة، لكنها تهزّ الوجدان:
"ما زلت حيّة... لكنني أعيش موصولةً بآلة إصطناعية لتصفية الدم"