وقد ارتكز هذا التحول على مسارين متكاملين: أولهما توسيع الشراكات العسكرية مع حلفاء إقليميين ودوليين، وعلى رأسهم أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وثانيهما إعادة هيكلة التكوينات العسكرية بما يتماشى مع معايير الجيوش الحديثة، خاصة أن التكنولوجيا غيرت مفهوم التفوق العسكري، وبات إنتاج أنظمة عسكرية دقيقة على نطاق واسع وبكميات كبيرة «الكثرة الدقيقة» هو موضوع أي سباق عسكري حقيقي وحاسم، مثل المسيرات والصواريخ الموجهة..
فعلى مدى 15 عامًا، تبلورت رؤية استراتيجية تزاوج بين تأهيل العنصر البشري، وامتلاك التكنولوجيا، وتثبيت الحضور في شبكات التعاون العسكري الدولي، والخروج من دائرة "التبعية العسكرية"، أي من دائرة الحلفاء التقليديين إلى الشراكات متعددة الأبعاد، وملاحقة «الجودة» في مجال الأسلحة المتطورة والأنظمة العسكرية التكنولوجية المتقدمة، وعدم الاكتفاء بموردين محددين.
لقد أدرك المغرب باكرًا أهمية تعزيز تحالفاته الدفاعية وتنويعها. إذ تعتبر مناورات «الأسد الإفريقي»، التي تُنظم سنويًا بشراكة مع الـ «أفريكوم»، محطةً مركزية في هذا المسار، خاصة أنها مناورات تجري بمشاركة قوات أمريكية ومغربية ودول أفريقية وأوروبية، وتجيب في الوقت نفسه على جاهزية القوات المسلحة الملكية لرد أي اعتداء عسكري، كما تذيب الشك في قدرتها على دحر أي هجوم قادم من الشرق أو الجنوب، ما دامت قد أكدت، سنة بعد أخرى، أنها ليست مجرد تدريبات عسكرية، بل مختبرا حقيقيا لتبادل المهارات والتكتيكات بين الكثبان المتحركة للصحراء المغربية.
وإذا كان التعاون العسكري بين القوات المسلحة الملكية والبنتاغون يتجاوز المناورات والدعم والتسليح والتدريب وتبادل المعلومات العسكرية إلى شراكة استراتيجية، فإن المغرب ظل منفتحا على حلفاء آخرين، مثل فرنسا، الشريك التاريخي وأحد أبرز الشركاء في التدريب والتسليح، خصوصًا في مجالات الجو والبحر واللوجستيك، فضلا عن إبرام شراكات أخرى للتعاون العسكري في مجالات الطائرات بدون طيار والدفاع السيبراني وأنظمة الرادار والاستخبارات، على قاعدة «الاتفاق الثلاثي» ابراهام 2020)، إضافة إلى التعاون الدفاعي مع السعودية والإمارات. ناهيك عن بريطانيا التي دخلت على خط التعاون العسكري عبر اتفاقيات تسليح وتكوين، في حين باتت دول مثل الصين والهند وتركيا تزود المغرب بتقنيات رقابة متقدمة وطائرات مسيّرة وتقنيات المراقبة الجوية في بيئات مختلفة.
هذا التنوع في الشراكات وتحديث العتاد العسكري، فرض تأهيل العنصر البشري، على مستوى الضباط وضباط الصف وحتى الجنود. إذ تم التركيز، في التكوينات التمهيدية، على تأصيل المهارات العسكرية الكلاسيكية، لكن مع بداية العقد التالي، ظهرت الحاجة إلى نقل التكوين من الإطار التقليدي إلى التخصص المهني والتقني. إذ قامت الأكاديميات العسكرية المغربية «الأكاديمية الملكية بمكناس والمدرسة الجوية بمراكش» على إدراج برامج جديدة في مجالات الاستخبارات، الحرب السيبرانية، تحليل البيانات، وقيادة العمليات المشتركة. كما تم إلحاق مجموعة من الضباط بالتكوينات الخارجية، وخاصة في أمريكا، فضلا عن إشراكهم في العديد من المناورات، سواء تلك التي تجري في الأراضي المغربية أو خارجها. وتم إرسال دفعات مختارة من الضباط لتلقي تكوينات متقدمة في معاهد عسكرية بأمريكا وفرنسا، لحيازة طرق التحكم في أنظمة الدفاع الجوي، وتشغيل الطائرات المسيرة، والتخطيط الاستراتيجي والتخابر الفني، الأمر الذي مكن القوات المسلحة الملكية بإدماج مراكز محاكاة رقمية وتدريب تكتيكي على العمليات غير المتماثلة، خصوصًا تلك المرتبطة بالإرهاب والجريمة المنظمة عبر الحدود، وأيضا في الحروب السيبرانية. كما مكن من ربط التكوين العسكري بمشروع بناء صناعة دفاعية وطنية يسعى المغرب إلى إنتاجها محليًا في المستقبل.
لقد نجح المغرب عبر شراكاته العسكرية المتنوعة في بناء جيش حديث ذي قدرات تتناسب مع التطورات الراهنة في مجال الحروب والتكنولوجيا، وذي استراتيجية عسكرية لا تقتصر على الحماية الترابية، بل تشمل الحضور الفاعل في الأمن الإقليمي، من خلال استباق التهديدات الخارجية، ومن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، وتحليل المعطيات الاستخباراتية، والتأهيل المستمر للكوادر العسكرية. إذ لم يعد الجيش مجرد قوة مادية تعتمد على الكثرة العددية، بل على الكثرة الدقيقة والخبرة التقنية، من خلال استثمار التكوينات الحديثة، وتعزيز قدرات البحث والتطوير في المجالات الدفاعية.
لقد خطا المغرب، ما بين 2010 و2025، خطوات واثقة ومدروسة في مسار تحديث منظومته العسكرية، ليس فقط من حيث التجهيزات، بل بالأساس من حيث هندسة العقول العسكرية وتكريس المعرفة الاستراتيجية بوصفها عنصرا مركزيا حاسما في العقيدة العسكرية الجديدة. كما تحول التعاون الدولي، وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، من مجرد تبادل عابر للخبرة إلى آلية استراتيجية تروم استتباب الأمن بالجوار الملتهب وفق المعطيات الجيو-استراتيجية، ووفق الشراكات الاستراتيجية الشاملة. بينما أصبحت التكوينات الجديدة واجهة فعلية لهذه التحولات، وعلى رأسها التحول التكنولوجي. ومن تم أصبح الجيش المغربي، اليوم، أكثر جاهزية واستعدادا لممارسة الدور المنوط به، في مواجهة كل الاعتداءات المحتملة، سواء أعلى المستوى العسكري المباشر أم على مستوى الحرب السيبرانية التي لا تعير أي اهتمام للحشد الكمي، ولا لأي «قوة ضاربة» في الصراخ وقرع الطبول..
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"