مصطفى عنترة:الخفي والمُعلن في عودة بنكيران إلى قيادة حزب العدالة والتنمية

مصطفى عنترة:الخفي والمُعلن في عودة بنكيران إلى قيادة حزب العدالة والتنمية مصطفى عنترة وعبد الإله بنكيران
لم تكن عودة عبد الإله بنكيران إلى قيادة حزب العدالة والتنمية مجرّد لحظة حزبية داخلية، بل مثّلت لحظة فارقة أعادت ترتيب الكثير من الأوراق في المشهد السياسي المغربي. فأن يُصرّ شيخ في السبعين من عمره على قيادة حزب انهزم انتخابيًا شرَّ هزيمة، وأن تمنحه القواعد - خصوصًا الشبابية منها - ثقتها من جديد، فالأمر يتجاوز منطق التداول الداخلي، ليحمل في طياته رسائل سياسية متعددة، موجهة إلى الدولة وخصوم الحزب معًا.

نعم، لقد شكّلت هذه العودة حدثًا سياسيًا مشحونًا بالدلالات والرسائل، تتجاوز حدود الحزب إلى الدولة والمشهد السياسي برمّته. ففي لحظة بدا فيها الحزب على هامش اللعبة السياسية، مهزومًا انتخابيًا ومفتقدًا للبوصلة، ظهر بنكيران مجددًا من خلف ستار الصمت، وكأن القواعد المنهكة استدعت الزعيم الكاريزمي لترميم بنيان الحزب وإعادة هندسة الثقة.

اللافت أن من صوّت له ليس فقط الجيل القديم، بل قواعد شبابية اختارت، على نحو مفارق، أن تعيد الحياة إلى شيخ في السبعين. وهنا نتساءل: هل كان تصويت القواعد الشبابية لبنكيران فعلًا سياسيًا يرمز إلى تمرد ناعم ضد "الدولة" التي أبعدت الرجل في عز شعبيته؟ أم وفاء لرمزية سياسية لم تستطع الوجوه الجديدة أن تنافسها؟ أم هي رسالة ضمنية مفادها أن بنكيران لا يزال هو وحده القادر على حمل راية الحزب في وجه رياح التراجع؟

المؤكد أن بنكيران لم ينسَ ما يعتبره "إبعادًا قسريًا" بعد أزمة "البلوكاج" وما تلاها من أحداث سياسية. بل يبدو أن طموحه للعودة لا ينفصل عن رغبة دفينة في تصفية حساب سياسي مع من "أبعده"، ومع من "خانوه"، داخل الحزب وخارجه.

عودة بنكيران تخفي وراءها ما يشبه رغبة في تصفية مرحلة بكاملها؛ فهي ليست حدثًا بريئًا، ولا يمكن فصلها عن سياق تصفية حسابات سياسية مفتوحة منذ سنة 2016. فعندما تم تكليفه بتشكيل الحكومة، ثم عُزل فجأة بعد أشهر من "البلوكاج"، بدأت مرحلة الغياب القسري. وها هو الآن يعود، حاملاً في جعبته رغبة واضحة في تصفية مرحلة، سواء تجاه الدولة التي أخرجته من الباب الخلفي، أو تجاه خصومه السياسيين الذين لم يتردد في اتهامهم بإجهاض تجربته، وعلى رأسهم عزيز أخنوش، الذي اعتبره دومًا عرّاب ورمز "البلوكاج"، وخصومه الداخليين من داخل الحزب ذاته، وفي مقدمتهم مصطفى الرميد، الذي خصص شهر رمضان الماضي لحملة رمزية منهجية ضد بنكيران عبر ثلاثين حلقة متتالية.

في المقابل، ما يسترعي الانتباه هو أن الدولة، في تعاملها مع بنكيران، اختارت الذكاء بدل المواجهة. ويكفي التوقف عند مضامين البرقية الملكية التي هنأته بعد انتخابه أمينًا عامًا، لندرك أن هناك حدودًا مرسومة للتفاعل، تختلف عن نماذج إقليمية اختارت منطق الاجتثاث، كما وقع في الأردن مثلًا، حين تقرر حل جبهة العمل الإسلامي بذريعة ارتباطها بعمليات إرهابية تم ضبطها. المغرب اختار الاحتواء لا الإقصاء، وتدبير الحضور الإسلامي ضمن النسق، لا خارجه. وهنا تحديدًا تتجلى خصوصية الحالة المغربية.

بنكيران، من جانبه، لا يُخفي طموحه السياسي، وهو يراهن على محطة الانتخابات التشريعية 2026 للعودة إلى المشهد. ويعلم جيدًا أن رهانه لا يمكن أن ينجح فقط عبر تعبئة قواعد حزبه، بل من خلال الاستثمار في سياقات أوسع، على اعتبار أنه يشتغل على أكثر من جبهة: هشاشة الحكومة الحالية، تأزم الوضع الاجتماعي، الزخم الشعبي الكبير الذي تخلقه القضية الفلسطينية، والنقاش العمومي المفتوح حول مراجعة مدونة الأسرة، وهو الملف الذي طالما قدّم فيه بنكيران نفسه كقائد للتيار المحافظ.
لكن، هل تكفي هذه الأوراق لضمان عودة قوية للحزب؟ وهل تكفي الكاريزما وحدها لتعبئة جمهور أنهكته وعود سابقة لم تتحقق؟

ما لا يمكن إنكاره أن بنكيران يتمتع بصفات نادرة في المشهد السياسي؛ فالرجل لا يزال يملك ما لا يملكه خصومه: الجرأة السياسية، البراعة التواصلية، سرعة البديهة، والقدرة على صناعة المعنى من خطاب شعبي بسيط. إنه ظاهرة تواصلية بامتياز، يعرف جيدًا كيف يخاطب القواعد بمفردات شعبية، ويُحرّك جمهورًا بأدوات بسيطة، دون حاجة لمؤثرات رقمية أو دعايات فخمة، ويوجه رسائله إلى كل من يهمه الأمر. وقد علمته سنوات التدبير الحكومي، ومفاوضات الكواليس، كيف تُصنع القرارات وأين تُعطى الإشارات.

الأكيد أن الأنظار تتجه الآن إلى حزب العدالة والتنمية بعد مؤتمره الأخير، والسؤال الكبير هو: كيف سيتعامل بنكيران مع استحقاقات 2026؟ هل سيعيد تشكيل المشروع السياسي للحزب، وبالتالي يُعيده إلى واجهة التأثير؟ أم أن عودته ستظل مجرّد استرجاع لماضٍ رمزي دون مضمون جديد؟ وهل الزمن السياسي تغيّر، ولم يعد يسمح بعودة الكاريزما وحدها؟
إن الرهانات المقبلة أعقد من مجرد "عودة زعيم"، إنها اختبار لمشروع سياسي، بمعنى: هل ما زال لحزب العدالة والتنمية ما يقدمه للمغاربة في زمن تتغير فيه أولويات المجتمع؟
إنه سؤال عن مستقبل المشروع بأكمله، وعن قدرة السياسة على أن تصلح ما أفسدته السياسة نفسها. إنتهى الكلام.