إن تحليل وتقييم مسار موقف نظام الجزائر على مدى 50 عاما في صراعه المُضْني ضد المغرب سعيا لعرقلة استكمال وحدته الترابية/ نوفمبر 1975، مع ما تَحَمّله من أعباء بحثا عن تحقيق متلازمتي "الاستفتاء وجمهورية البوليساريو"، يفيد أن قادة الجزائر ـ في غياب أية حكمة أو بصيرة أو تطلع إلى طبيعة الخصم ـــــ ذهبوا بعيدا دون خط رجعة، فأقحموا بلادهم في مغامرة غير محسوبة العواقب، ستكون لها ارتدادات متعددة الأبعاد والمخرجات بعد الحل النهائي، وجب الوقوف عند بعضها.
فالمجازفة الجزائرية، على مدى نصف قرن، كانت معقدة ومكلفة وصولا للهدف الذي استعصى تحقيقه. فقد تطلب الموقف من نظام الجزائر الناشئ 1962 أمام مملكة 12 القرن، درجة قصوى من التجنيد وتسخير كل الإمكانات السياسية والدبلوماسية والإيديولوجية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية واللوجستية والمالية والنفطية...، بل تم إقحام الشعب الجزائري في تعبئة شاملة رهنت مصير البلاد.
- ماذا يعني الاستفتاء للجزائر؟:
الغاية الأساسية للمطالبة بإجراء " استفتاء تقرير مصير الشعب الصحراوي"، واحتضان الجماعة الانفصالية، والذهاب بعيدا ومُبَكِّرا، بخلق كيان وهمي حتى قبل إجراء الاستفتاء :" الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" وتمكينها من مقعد إفريقي مُزَور والدعوة للاعتراف بها دوليا، معروفة يمكن تلخيصها في مجموعة من الطموحات الحالمة، ابتدعها الرئيس الراحل هواري بومدين وتبناها من تعاقب بعده على الحكم حتى اليوم، باستثناء مواقف ثُلَّة من الرؤساء المُتَبَصِّرين: الشاذلي بن جديد وليامين زوال اللذين استُبْعِدا من الحكم، ومحمد بوضياف الذي تم اغتياله، بسبب انفتاحهم على الحل مع المغرب، وهي إشارة وجب استحضارها للإنصاف.
ـ الأطماع التوسعية:
تتجسد الأهداف الجزائرية في التعلق بمبدأ الاستفتاء، الذي كانت وراء كل جزئية فيه، والذي اختزلته في «الاستقلال/ الانفصال" كمدخل مُمَهد لخلق دويلة ضعيفة موالية في تماثل للعلاقة القائمة مع البوليساريو، بغاية السيطرة وتحقيق مصالح جيوستراتيجية، عسكرية، سياسية، جغرافية توسعية صِرْفة على حساب المغرب، بدءً بالطموح للوصول إلى منفذ للمحيط الأطلسي لتصدير حديد مناجم جبيلات، والسيطرة على الثروات المعدنية بالصحراء.
تَطَلَّع نظام الجزائر أيضا كسياسة ثابتة قارة معادية لزعزعة استقرار المغرب، ومحاصرته وتطويقه ومنعه من التواصل مع عمقه الإفريقي وعزله عن امتداده الترابي مع موريتانيا، وتحجيم دوره الإقليمي، تحقيقا لطموحات وهمية، دون مراعاة لمنطق التاريخ وحقائق الجغرافيا وحُرْمة الجوار، والتعايش السلمي. مواقف تذهب لدفع المنطقة إلى نزاعات مفتعلة متواصلة.
ـ العداء الراسخ:
حرص حكام الجزائر على بث روح العداء المفرط بشكل يثير الاستغراب تجاه المملكة وشعبها، شمل التراث والحضارة والرياضة والإعلام.... فحَوَّلوا الصراع إلى مادة سياسية وإعلامية خصبة، في سياق سياسة مشاكسة وتحرش هيستيري، تحمل لغة تفوح بالعدوانية وتنضح بالكراهية، وكأن الحرب مشتعلة. وهو عداء يبدو سببه المزايا وليس العيوب.
ويلخص هذا الموقف، المؤرخ عبد الله العروي في مُؤلفه "الجزائر والصحراء المغربية" ص 95، بقوله: "...التفسير الوحيد هو الكراهية اللاعقلانية التي يحملها... القادة الجزائريون للأمة المغربية وماضيها ومستقبلها".
- ما الحاضر والغائب في الأطروحة الجزائرية ؟:
منذ البداية يبدو أن صانع القرار الجزائري وضع نصب أعينه تحقيق أحد الأهداف الثلاثة لتدبير ملف الصراع على الصحراء: إما التمكن من إجراء الاستفتاء وتحقيق الانفصال لخلق جمهورية موالية، أو مساومة المغرب من أجل تقسيم الصحراء (مشروع بوتفليقة)، أو إطالة أمد النزاع والتقوقع في حالة اللاحرب واللاسلم، وهي الحالة السارية منذ نصف قرن من الزمن. أما خيار تمكن المغرب من إسقاط أطروحة الانفصال، فهذا السيناريو لم يكن في الحسبان.
لذلك نجد نظام الجزائر رفض كل المحاولات المغربية للتفاهم والحوار واليد الممدود، فقطع كل سبل التواصل في رحلة سير إلى الوراء تعلق فيها بأجندة ماضوية لم تتمكن من استيعاب المتغيرات الدولية التي انتصرت للسلامة الإقليمية والوحدة الترابية للدول على حساب تقرير المصير الذي باتت ترى فيه انتهاكا للسيادة الوطنية للدول وعنصرا لزعزعة استقرارها.
- ماذا يعني الحكم الذاتي للجزائر؟:
واجهت الجزائر المبادرة المغربية للحكم الذاتي بالرفض المطلق منذ أن تقدم بها المغرب إلى الأمم المتحدة/ 11 أبريل 2007، ويَدُل هذا الرفض على هشاشة موقفها في ظل عقم وعجز على تقديم بدائل لأطروحتها شجينة الاستفتاء.
لم يلتفت حكام الجزائر للتطورات التي واكبت الانتشار الواسع للمقترح المغربي داخل المنتظم الدولي على مدى 18 سنة من تحركات ومساعي الدبلوماسية المغربية، لكن ماهي دوافع هذا الانغلاق حتى اليوم. ليس فقط لإطالة أمد النزاع، بل لأن الاقتراب من الحل يضع نظام الجزائر على المحك، وأمام سؤال المستقبل، وسؤال ما الجدوى، وسؤال المكاسب والخسائر، وسؤال المسؤولية أمام الشعب، وسؤال كيفية حفظ ماء الوجه، وسؤال التخلص من إرث تندوف أرضا وساكنة متعددة الأجناس، ومن خردة أسلحة منتشرة لدى الميليشيات الإرهابية.
- إكراهات الأجوبة:
تلكم أسئلة في غاية الأهمية محرجة مستفزة مقلقة، الجواب عليها لدى ذوي الشأن الجزائري، لحد الآن لا نرى سوى قرارات النرفزة والفنطزة والتخبط ومحاولات التغطية على الوضعية الحرجة التي يمر بها نظام الجزائر، في ظل غياب استراتيجية المواجهة أو الانفتاح على البدائل، بعناوينها الجديدة الكبرى.
ويبدو أن الجزائر لم تكن مستعدة للسرعة القصوى المفاجئة للدبلوماسية المغربية التي رفعت سقف الايقاع والتوقعات، والتي تحركت بهدوء وحكمة، فَغَلَّة اليوم كفاح سنوات. والزخم الذي اكتسبته قضية الصحراء من خلال مبادرة الحكم الذاتي، جاء نتيجة دعم القوى الدولية الكبرى المؤثرة في مثل هذه النزاعات: الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا اسبانيا، المعزز بدعم 22 دولة أوروبية وبريطانيا الغير بعيدة، وأكثر من نصف القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية وآسيا، ثم روسيا التي تغيرت نظرتها للنزاع، وتركيزها على حربها مع أوكرانيا والتقارب مع الإدارة الأمريكية الجديدة، أما الصين فمنشغلة بمصالحها الاقتصادية والتجارية وتنآى عن الصراعات الدولية، وحرب غزة خير مثال.
تواجه الجزائر إكراه مجلس الأمن الدولي الذي شطب من قراراته خيار "الاستفتاء"، معتمدا صيغة الحل السياسي الواقعي، مدرجا كإحاطة بالعلم المقترح المغربي، مع الترحيب بالجهود المغربية المتسمة بالجدية والمصداقية.
بل حتى مصير "بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية" المعروفة اختصارا "المينورسو"، بات محط سؤال الحاجة والمهمة والمصير، في ظل مستجدات القضية وإسقاط طرح الاستفتاء، فضلا عن الوضعية المالية والميدانية الصعبة للبعثة بسبب نقص الموارد المعيقة لأداء مهامها، التي أبرزها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، في تقريره الأخير أمام مجلس الأمن. يضاف لذلك إعراب الإدارة الأمريكية الجديدة عن عزمها تقليص التمويل لبعض بعثات حفظ السلام الأممية بما فيها "المينورسو".
الصحراء اليوم بدأت تعكس مخاوف قادة الجزائر، تتجسد أولا في تلقي رسائل تحذيرية مباشرة من عواصم الدول الكبرى تدعوهم لوضع حد للأعمال والنشاط السياسي والعسكري لميلشيات البوليساريو، ثانيا ترقب نهاية دراماتيكية بعد سقوط كل رهاناتهم وتبعثر أوراقهم، باتت معها البلاد على حافة مخاطر داخلية وإقليمية أفرزها 50 عاما من صراع اللا جدوى.
-توقعات ردة الفعل الجزائرية:
السؤال المطروح الآن، كيف يمكن أن يتفاعل نظام الجزائر مع هذه المرحلة التي تتجه نحو الطي النهائي لملف الصحراء، لاسيما بعد دعوة أطراف النزاع للتفاوض تحت إشراف أممي، لتنزيل مواد وحيثيات الحكم الذاتي لجهة الصحراء تحت السيادة المغربية؟؟؟؟
بعد الهزيمة الدبلوماسية والسياسية لحكام الجزائر يمكن توقع عدة سيناريوهات: فقد يلجؤوا إلى التصعيد العسكري والمغامرة بشن الحرب على المغرب لخلط الأوراق وخلق واقع جديد للنزاع، وهذا الخيار يبدو صعبا ومعقدا لحجم المسؤولية الدولية ومخاطر ارتداداتها على الجزائر. السيناريو الثاني وهو المنتظر يتمثل في نهج سياسة المناورة والتلكؤ والممانعة ووضع العراقيل وتقييد البوليساريو وإطالة أمد التفاوض ومخرجاته، في محاولة لِنَقْر بعض فتات القضية حفظا لماء الوجه، أما الخيار المثالي فيكمن في الخضوع للإرادة الدولية وإبداء حسن النوايا بالانسحاب، وترك أصحاب الشأن يتدبرون مستقبلهم.
-ـ انتظارات حسن النية الجزائرية:
إذا افترضنا تبني نظام الجزائر سلوك حسن النوايا والتعاون البناء، فماذا ينتظر أن يتخذه من إجراءات وتدابير على أرض الواقع:
أولا: الإعلان صراحة عن إسقاط أطروحة "الاستفتاء وتقرير مصير الشعب الصحراوي" وطي صفحته، والالتزام بعدم العرقلة كالعادة؛
ثانيا: فك الارتباط بجماعة البوليساريو، بالتحول من حالة انفصال إلى وضعية حزب معارضة/ جماعة ضالة بالخارج عائدة إلى الوطن. فك الارتباط هذا يتجسد في قطع كل أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي والدعائي والإمدادات العسكرية وغيرها، فك الارتباط يعني أيضا القطيعة مع سياسات الأمس فلا وصاية ولا وتوجيه ولا تعبئة ولا رعاية لقادة الجبهة؛
ثالثا: التصريح بالتراجع عن الإعلان الأحادي بخلق "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"؛
رابعا: إخلاء مخيمات تندوف وفك أسر المحتجزين الصحراويين المغاربة بعد التدقيق والتأكد من هويات الأقوام التي تتجمع فيها؛
خامسا: تفكيكيك المجموعات والميلشيات المسلحة الإرهابية المنتشرة والمتربصة على الحدود مع المغرب ونزع أسلحتها، لا سيما وأن البوليساريو مهددة بتصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل أعضاء بالكونغرس الأمريكي، وهو توجه مرشح أن تتجاوب معه العديد من الدول الغربية، يضع الجزائر في موقف الدولة الراعية للإرهاب؛
سادسا: اتخاذ إجراءات التهدئة على الحدود مع المغرب وتجنب كل أشكال الحشد والتجييش والمناورات العسكرية التي توحي ببوادر الحرب؛
سابعا: في مرحلة مبكرة من التفاوض سيبدو أن الجزائر تفقد كل دور أو مسؤولية في التفاوض إلى جانب ممثل البوليساريو، لأن الأمر سيتحول من الوصاية إلى شأن داخلي مغربي، في إطار مقتضيات الحكم الذاتي للعودة والاندماج والارتباط بالدولة المغربية؛
تبخر أحلام نظام الجزائر في الوصول إلى غايات "الاستفتاء الانفصالي" والانتقال مضطرا إلى الحكم الذاتي كحل نهائي لطي ملف الصحراء، لن يكون بالأمر الهين على نظام قام وتأسست منظومته الايديولوجية والسياسية والعسكرية على العداء المستحكم للمغرب والاطماع التوسعية في ترابه الوطني وانتهاك سيادته، فالموقف بات يتطلب تحولا جذريا في كل السياسات والمعتقدات والعقليات والمخططات والمكونات التي بنى عليها حكام الجزائر أجندتهم، لما اختاروا طريق الصراع مع المغرب قبل وبعد ملف الصحراء المغربية 1975. هذا سؤال صعب ومعقد على صاحب القرار تدبير مخرجاته في مواجهة مفتوحة على كل الجبهات الداخلية والخارجية. يقول الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش " لا شيء أقسى من رائحة الاحلام وهي تتبخر.. ".
محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق