ثمة أشياء في التاريخ لا تقرأ إلا بمنظار المتأمل الفطن، لابمنظار الرصد السطحي. وقضية الصحراء المغربية ليست مجرد ملف سياسي يتداول في الأمم المتحدة.
بل هي قضية وجدانية مترسخة في الذات، تتداخل فيها الهوية بالتاريخ، بالجغرافيا، في النهاية نحملها في القلب، نزنها بلغة العقل لا بمنطق المصالح.
من حقنا بل من واجبنا أن نقرأ هذا الملف بعين المثقف الذي يلتقط ملامح الحكاية من سيرورة الزمن لا من هوامش الاحاطات.
أن نناقشه لا كمتفرجين على شاشة دولية متغيرة السياقات، بل كفاعلين يفهمون أبعاد الحكاية وعمق التاريخ وامتداد الجغرافيا.
نعم نؤمن بمغربية الصحراء لا بوصفها شعاراً يردد كل مرة دون عمق، بل بوصفها يقيناً رسخ في الوجدان قبل أن يرسخ في الخرائط..
إحاطة "ديمستورا" الأخيرة لم تكن سوى امتداد لرؤية أممية تُدار بلغة مركبة تتقاطع فيها السياسة بالقانون الدولي، وتتماهى فيها الحدود بين الجغرافيا والعاطفة، فها هو "الساكن" يتحول في لغة الإحاطة الى "شعب" و"اللاجىء" الى "كيان" و"المخيم" إلى "وطن مفترض"، فيما تظل الجغرافيا كما هي مغربية رغم تغير الصياغة ومكر اللغة..
حين يتحدث "ديمستورا" عن الحكم الذاتي فهو لايساءل المغرب وحده بل يختبر مدى نضج النظام الدولي في فهم واستيعاب الحلول الواقعية التي تنهي النزاع ولا تطيل الأمد.
يسألنا بلغة دبلوماسية ناعمة: ماهي حدود الكيان الذي ستمنحونه الصلاحيات؟ لكنه وهو يطرح السؤال يغفل عن حقيقة بسيطة أن المغرب لايفاوض على جزء منه، بل يطرح مشروعاً للحياة، مشروعاً لإنهاء حالة التيه والشتات التي كان جزء من أبناءه ضحيتها ذات تاريخ وسياق صنعنا جميعا جزءا منه ومن اخطاءه.
أما دعم اللاجئين دون إحصاءهم، فتلك قصة وحكاية مفارقة تُعري نوايا المتاجرة بالبؤس، ومن لايريد إحصاء ساكنة "تندوف" لايريد حلاً، بل يُريد بقاء الجرح مفتوحاً ومعه صنبور المساعدات هو جزء من استثمار مربح.
لكن للدقة، "ديمستورا" ليس العدو بل هو المأخوذ بدوامة التوازنات، أما نحن فعلينا ألا نضيع في اللغة، ونتوه بين المصطلحات، الموضوع يقتضي يقظة في كل شيء..
الملف دخل منعطفاً جديداً بفضل الدبلوماسية الملكية التي تجاوزت حدود البروتوكول إلى الفعل التاريخي، إعتراف أمريكي واضح، وتحول اسباني عميق، وزيارة فرنسية تؤسس لمعادلة جديدة، لكن كل هذه الانتصارات تظل معلقة في الهواء إن لم تُسند بجبهة داخلية صلبة لاتصدح بالشعارات بل تبني بالمعرفة والاقناع..
الحكم الذاتي ليس مجرد ورقة سياسية، إنه مشروع حضاري يحتاج لقراءة سوسيولوجية، لنخب تؤمن بأن السياسة ليست مؤامرة أو فن إدارة المصالح، بل هي فن إبداع الحلول لمصلحة الوطن.
أما "الجزائر" فليست خصماً عادياً، إنها ذلك الجار الذي ألمته الجغرافيا، فصنع من الكيان الوهمي مسرحاً لبطولاته الوهمية، ولن تسمح بتاتاً أن يتلاشى الحلم دون أن يدمينا أولا.
هي لاتريد حلاً، بل تريد ثمناً وهذا مايجب فهمه.
لهذا فإن معركتنا اليوم ليست على الطاولة الأممية، بل داخل البيت، نحتاج الى تغيير المقاربة والعقليات، إلى إعادة النظر في الخطاب، إلى وجوه جديدة تحمل الهم الوطني بلا مقايضة..
الملف ليس لعبة شطرنج سياسية، بل هو تاريخ روي بالدماء وعلى من لايفهم التاريخ أو لايجيد القراءة أن يغادر الرقعة.
جلالة الملك في إفتتاح الدورة التشريعية الأخيرة قال "الكفاءة والاختصاص هم مفتاح الحل وطريق إلى الترافع"، ولو طُبق هذا المبدأ في السياسة لما عشنا نصف قرن من سوء الفهم..
الصحراء لسيت قضية حدود بل قضية وجود، ومن لايفهم ثقافة الجنوب لايمكنه أن يكتب المستقبل.
على "البوليساريو" فهم أن المشروع الذي بدأ في "الزويرات " بتمويل من "القذافي" وانتهى في "تندوف" تحت وصاية "العسكر"، هو مشروع فقد شرعيته وصلاحيته، ولم يعد يقنع حتى أبناءه الذين تشتتوا في بلدان العالم.
بقى أن أقول، هي فرصة للحل بدل العيش في الوهم.
ونحن هنا في المغرب هذا البلد بعمق تاريخ طويل، لانطالب العالم بالانصاف، بل نطالبه بالفهم والفهم أول طريق نحو السلام..
وفي النهاية، حين يصمت الجميع لن يبقى لنا سوى الوطن، والوطن لايفاوض بل يعاش…