لكن هذا الموعد لا يهدف فقط إلى إحياء الذاكرة، بل يشكل لحظة احتجاجية قوية تعبر عن عمق الغضب الشعبي إزاء بطء تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وما يطال هذا الملف من تهميش سياسي ومؤسساتي، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.
تحمل هذه المسيرة بعدًا رمزيًا قويًا، كونها تتزامن مع لحظة نضالية بارزة في التاريخ الجماعي للحركة الأمازيغية. فقد شكل "الربيع الأمازيغي" محطة مفصلية في الوعي السياسي والثقافي الأمازيغي، تجاوزت الحدود القُطرية لتتحول إلى مناسبة سنوية لتجديد المطالب، وترسيخ الاستمرارية في الكفاح من أجل العدالة اللغوية والثقافية.
اختيار مدينة مراكش لاحتضان هذه المسيرة الوطنية ليس اعتباطيًا. فبعمقها التاريخي والحضاري الأمازيغي، تمثل مراكش رمزًا ثقافيًا وسياسيًا يعكس مركزية الأمازيغية في تشكّل الهوية المغربية. إنها إحدى العواصم التاريخية للمغرب، وموطن لثقافة أمازيغية متجذرة تتجلى في المعمار، وفي اللسان اليومي، وفي العادات والتقاليد المجتمعية.
تشكل مسيرة "تافسوت ن إمازيغن" محطة نضالية حاسمة في مسار القضية الأمازيغية بالمغرب، تذكّر بمركزية الملف، وتعيد طرح السؤال الجوهري حول مدى جدية الدولة في إرساء مساواة لغوية وثقافية حقيقية، تتجاوز التسويف، وترتقي عن التدبير الأمني والتقني.
تأتي هذه المحطة في سياق يتسم بتراجع واضح في التزامات الدولة تجاه تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، كما ينص على ذلك الفصل الخامس من دستور فاتح يوليوز 2011، وكذا القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
لقد شهد مسار التفعيل تباطؤًا ملحوظا، لا سيما في قطاع التعليم، ما أدى إلى هدر زمن سياسي ثمين، وتعميق الهوة بين النصوص القانونية والواقع العملي. كل هذا في ظل إرادة سياسية قوية للملك محمد السادس وتأكيد متكرر على مركزية الأمازيغية كلغة وثقافة وهوية وحضارة، وتحويلها إلى ورش وطني وخيار استراتيجي.
من هنا، لم يكن مستغربا أن تتجه أصابع النقد نحو الحكومة الحالية، خاصة أن حزبها الأغلبي، التجمع الوطني للأحرار، قدّم نفسه كفاعل سياسي جديد يتعهد بإعادة الاعتبار للأمازيغية، بعد سنوات من الجمود في ظل حكومات سابقة ذات مرجعية إسلامية. لكن، رغم كثرة الوعود، ظل ما تحقق على الأرض محدودا، إن لم نقل مخيبا للآمال، وهو ما دفع الباحث عبد الله بوشطارت إلى وصف الوضع بـ"الافتراس السياسي".
هذا الافتراس لا يقتصر فقط على الإهمال أو التأجيل، بل يتمثل في توظيف الرمزية الأمازيغية لخدمة أغراض انتخابية، ثم التنكر للملف بمجرد الوصول إلى السلطة. فالإنجازات المحققة حتى الآن تظل جزئية وهامشية، في ظل غياب رؤية استراتيجية واضحة، وضعف الموارد المالية المرصودة، وتراجع الدعم المؤسساتي الجاد.
اليوم، لم تعد المطالب الأمازيغية محصورة في الجانب اللغوي والثقافي، بل اتسعت لتشمل قضايا الكرامة وحقوق الإنسان، من خلال المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين الأمازيغ، ومعتقلي حراك الريف وزلزال الحوز، والدعوة إلى انفراج سياسي حقيقي يمهد لبناء مغرب ديمقراطي منفتح. فالمعادلة بين الحقوق الفردية والجماعية، والعدالة الاجتماعية، والتعدد الثقافي، أضحت ضرورية لاستعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها.
بهذه الخلفية، تكتسي مسيرة مراكش بعدًا يتجاوز التعبير عن الغضب، لتتحول إلى آلية للمرافعة السياسية والمجتمعية، وإلى محاولة لإعادة الملف الأمازيغي إلى صدارة الأجندة الوطنية، بعد أن تم تهميشه بشكل ممنهج. إنها لحظة لتجديد الدعوة إلى تفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، والانفتاح على كفاءات جديدة، وتحقيق العدالة اللغوية، والإنصاف المجالي، واحترام حقوق الإنسان.
مسيرة مراكش ليست فقط مسيرة غضب، بل أيضًا نداء من أجل الكرامة، ومحاولة لإنقاذ مشروع استراتيجي تعثّر بفعل الحسابات السياسية، والتراخي المؤسساتي، وغياب ربط المسؤولية بالمحاسبة، وضيق الأفق السياسي.
إنها ليست تظاهرة ظرفية عابرة، بل تعبير عن لحظة وعي جماعي، تهدف إلى إعادة الاعتبار للقضية الأمازيغية، وطرق أبواب الدولة مجددا، بلهجة مدنية مسؤولة.
نعم، إنها صرخة من الجنوب نحو مركز القرار، تؤكد أن الكرامة اللغوية والثقافية والاقتصادية والمجالية للأمازيغ ليست امتيازًا ولا مطلبًا ثانوياً، بل حق أصيل لا يمكن تجاوزه في مغرب ما بعد دستور فاتح يوليوز 2011.