للأسف الشديد، شهدت الوقفة سلوكات مشينة تستحق كامل الإدانة، بغض النظر عن هوية مرتكبيها الذين لا يمكن تصنيفهم إلا في خانة "الفوضويين Anarchistes" الذين لا يرتقون إلى المستوى الأخلاقي المطلوب في الفعل التضامني مع الغزاويين في هذا الظرف الدقيق.
لست أدري ما إذا كان جميع الحاضرين في "الوقفة" متورطين في تحديد "الفقرات النذالية" و طبيعة "القيمة المضافة" التي استهدفوا تحقيقها من خلال الإتيان بصور رؤساء دول، لهم رمزيتهم في أوطانهم و لدى شعوبهم، و لهم مكانتهم في السياق الدولي، والتعامل معها بالأسلوب المسيء الذي وثقته الفيديوهات. لكن، أنا متأكد أن غالبية هؤلاء يعيشون مراهقة سياسية متأخرة، ويحملون وعيا فوضويا لا يرى في النضال جدوى إلا إذا امتزج بالعبث وقلة الحياء.
بل، يبدو لي أن بعض هؤلاء الفوضويين لا ينخرطون في "الوقفات" إلا إذا حملت بصمة استخباراتية لأجهزة البؤس التابعة لدولة الكراهية والعداء للمغرب والمغاربة. و إلا ما معنى تعمد إبراز العلم الجزائري و التونسي، دون غيرها من أعلام باقي دول العالم العربي، كما ظهر في الفيديو بأيدي متظاهرين كانوا جالسين في الصف الأول جهة اليسار؟؟
هل كان الفوضويون يسعون لإقناعنا أن الأنظمة السياسية للدولتين المذكورتين، "نقطة ضوء" في مسيرة التضامن الداعم لأهل غزة، مقارنة بالدول التي تمت الإساءة لصور زعمائها ؟؟ كيف يمكن تصديق مثل ذلك الوهم، و الكل يعلم أن التظاهرات الشعبية المساندة للفلسطينيين منعت وقمعت في الجزائر و تونس، عكس ما هو الحال في المملكة المغربية، على سبيل المثال؟؟؟
لماذا يتجاهل الفوضويون الذين أساؤوا إلى رمزنا الوطني الأول، دلالات الموقف الرسمي للدولة المغربية، حيث يعتبر ملك المغرب الضامن الأول لحق أبناء شعبه في التظاهر نصرة لأهل غزة، بالآلاف في كل المدن والجهات ...؟؟
أم أن المتظاهرين في ساحة "معهد العالم العربي بباريس"، لم يأخذوا علما بأن المغاربة تمتعوا بحرية التعبير عن تضامنهم مع الغزاويين، منذ أول يوم، حتى أن البعض عبروا عن مواقف سلبية مما يسمى "التطبيع" مع إسرائيل، دون أن يستهدفهم أي تدخل سلطوي لمنع ممارسة تلك الحرية في الشارع ؟؟
حتى تكون الأمور واضحة، ما سقطت فيه الوقفة العبثية للفوضويين في باريس، هو فعل يستحق الإدانة والرفض المطلق. كما هي مرفوضة كل الخطابات التي تزايد على المغرب، بتحليلات لا تصمد أمام نقاش مسؤول و هادئ، بعيدا عن السياسوية و خطر التبعية لأجندات خارجية لا تراعي واقعنا الجيوستراتيجي و خطورة التكالب الذي يستهدفنا و يريد تمزيق أوصال وطننا.
في هذا الصدد، على قدر إيماني بعدالة القضية الفلسطينية، ويقيني أنها تستحق الترافع الصادق لإيجاد حل عادل يوقف السقوط المستمر للضحايا المدنيين، أومن أن من يتعمدون المزج بين التضامن الواجب مع أهل غزة للمطالبة بوقف الحرب فورا، وبين الحسابات السياسوية التي تحضر فيها خطابات التأجيج والتعبئة والتجنيد لدعم مشاريع سياسية وتنظيمية معينة، يرتكبون خطأ في حق القضية و يمسون بموضوعية القيم الإنسانية التي تحملها.
كما أن استغلال الفعل التضامني لترويج خطابات تحريضية تعتمد التخوين والتشكيك في النوايا، كما لو أن هنالك "جهات" تمتلك الحقيقة المطلقة، و"جهات" في صف الباطل المطلق، و اللجوء لممارسات مسيئة تستهدف رموز السيادة في الدول التي قد لا يتفق بعض "المتضامنين" مع سياساتها ومواقف قادتها، هي أيضا أفعال لا تليق و لا تنفع، و لا توحد الصفوف، بل تنشر الفتنة والكراهية المجانية بين الناس.
بالتأكيد، من حق أي شخص أن يجتهد لبلورة قراءة مستقلة لقضايا الشرق الأوسط، يعبر عنها بحرية حتى لو حملت اختلافا مع مواقف وقرارات رسمية لبعض الدول. لكن المطلوب هو التعبير بالكلمة التي تحترم القانون و تراعي آداب الحوار، و عدم مصادرة المواقف والآراء المخالفة، كما لا يقبل أن يصادر حقه في الاختلاف والتظاهر.
بكل تأكيد، لا يمكن أن يمر النضال من أجل وقف الحرب وإحلال السلام في غزة، عبر "ترياب الحفلة"، و الطعن في رموز الدول، و ترويج خطابات الفتنة والتحريض. ومن يعتقد بجدوى تلك الممارسات المسيئة، مدعوون إلى التحلي بشجاعة تحليل مواقف جميع الدول العربية، خاصة التي تساهم في كل مفاوضات ولقاءات وترتيبات، سرية أو علنية، بين أطراف الصراع الشرق أوسطي، لنعرف بالضبط من يناصر من؟؟ و من يفعل ماذا في الكواليس؟؟ و كيف يتم التفاوض و تنسج التوافقات ؟؟ وعلى حساب من بالتحديد ؟؟
بعد ذلك، لا بأس في أن نجلس لنقاش هادئ ومسؤول، يعترف فيه الجميع بكل تقصير يوجد في أي من الساحات. أما نشر الأخبار الكاذبة، واعتماد سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع السياسة الخارجية لبعض الدول و تفادي الحديث عن دول بعينها، وتعمد "السير مع الذئاب و البكاء مع الراعي" باستثمار أبواق إعلام التحريض التلفزيوني المسنودة بميزانيات ضخمة، و استغلال الوقفات النضالية لتمرير "بعض" المواقف السياسية، و عدم الانتباه إلى خطورة النضال المخترق من أجهزة استخباراتية مختلطة الهوية، فهي كلها سلوكات تدل على النفاق والجبن السياسي و الانحراف الأخلاقي الذي لا يليق بأي فعل نضالي، كيفما كانت القضية التي نتحرك من أجلها ...
على الفوضويين والعدميين، سواء كانوا من الفلسطينيين أو غيرهم من الشعوب العربية و الإسلامية، أن يعلموا أن المغرب، قيادة و شعبا، كبير على العابثين والمتآمرين والمتربصين، و المغاربة ليس لديهم ما يخجلون منه، أو يخافون الحديث بشأنه، إما لشرح مواقف معينة والدفاع عنها إذا كان ذلك ضروريا، أو الاعتذار إذا تبثت لدينا القناعة أننا اجتهدنا ولم يحالفنا التوفيق و السداد.
في هذا الصدد، إذا كان المغرب الرسمي لا يحبذ كثيرا الانجرار إلى مستنقعات السجال الإعلامي، و لا يستعمل تقنيات الضرب الإعلامي تحت الحزام للدفاع عن مواقفه، فإن مواطني المغرب لديهم حرية أكبر في الحركة و الكلام و التحرك للرد على من يعتدون على حرمة بلادنا، و لا يجدون حرجا في دخول ساحات السجال ليؤكدوا رفضهم القاطع لأي مس برموزهم الوطنية، أو بوحدتهم الترابية.
وعلى جميع هواة "النضال الانتقائي" وحملة الفكر الفوضوي والعدمي، أن يعوا أن المغاربة قد يصبرون على "التجاوزات"، خاصة إذا كانت غير مقصودة، لكنهم لا يسلمون أبدا في كرامتهم و ثوابتهم الوطنية، لأنهم يؤمنون أن المملكة المغربية، قيادة وشعبا، تستحق شديد التوقير والاحترام، وينتظرون من جميع الحساسيات النضالية أن يستوعبوا تلك الحقيقة ويتصرفوا على أساسها.