الذكاء الاصطناعي وتحديد هوية مستقبل العالم

الذكاء الاصطناعي وتحديد هوية مستقبل العالم الذكاء الاصطناعي سلاح الهيمنة الجديد في صراع القوى العظمى
منذ الثورة الصناعية، كانت التكنولوجيا العامل الحاسم في موازين القوى بين الإمبراطوريات القديمة والدول الحديثة. واليوم، يقف العالم على أعتاب تحوّل نوعي لا يقل شأناً عما عرفه القرن العشرون مع الأسلحة النووية، بل يتجاوزه في القدرة على اختراق كل مفاصل الحياة الإنسانية. الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية لتسريع المهام أو تحسين الكفاءة، بل غدا نظاماً حاكماً موازياً، يملك إمكانيات غير مسبوقة في السيطرة، التوجيه، والتنبؤ، وهو ما جعل هذا القطاع في قلب الاستراتيجية الكبرى للقوتين الأعظم في النظام العالمي الحالي: الصين والولايات المتحدة.
 
الصراع حول الذكاء الاصطناعي ليس سباقاً تقنياً محضاً بين باحثين ومخترعين، بل هو معركة وجودية على من سيملك مفاتيح الغد. فمن يتحكم في الذكاء الاصطناعي سيتحكم في قواعد الإنتاج، في شبكات التجارة، في مراكز القرار، وفي تشكيل وعي المجتمعات وسلوك الأفراد. المسألة هنا تتجاوز حدود الاقتصاد والصناعة، لتصل إلى جوهر السيادة والهيمنة. فالولايات المتحدة تدرك أن تفوقها التاريخي قائم على الريادة التكنولوجية، بينما تعتبر الصين أن اللحاق بهذا القطاع والهيمنة عليه هو شرط أساسي لتحطيم أحادية القطب، وبناء نظام دولي جديد يتمركز حول بكين.
 
على أرض الواقع، يرتكز الصراع على ثلاثة محاور رئيسية: البيانات، والرقائق، والمعايير. تمتلك الصين ميزة كمية هائلة في البيانات، ناتجة عن المراقبة الصارمة لمليار ونصف من السكان، مما يتيح لها تدريب خوارزميات أكثر دقة وواقعية. في المقابل، تملك الولايات المتحدة البنية التحتية الأفضل في العالم للحوسبة السحابية، عبر شركات مثل Amazon AWS وGoogle Cloud وMicrosoft Azure، مما يمنحها تفوقاً في سرعة النشر والابتكار. أما في ما يخص الرقائق والمعالجات، فتشن واشنطن حرب تقييد تكنولوجي على بكين، تمنع من خلالها وصول الصين إلى الشرائح المتقدمة التي تنتجها شركات غربية مثل NVIDIA أو ASML، في محاولة لخنق طموحاتها الذكية.
 
الصين، من جهتها، لم تعد تكتفي برد الفعل. فقد أطلقت استراتيجية وطنية طموحة لتحقيق السيادة في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030. وتعمل على تطوير منظومات متكاملة تشمل التعليم، البنية التحتية، التمويل، والأنظمة العسكرية. في قلب هذا المشروع، يتم توظيف الذكاء الاصطناعي لإعادة تعريف مفهوم الدولة نفسها. نموذج الائتمان الاجتماعي، الذي يقيم المواطنين بناء على سلوكياتهم الرقمية واليومية، هو مثال صارخ على كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة سلطوية متقدمة لإنتاج الانضباط المجتمعي والسيطرة السياسية.
 
أما في الولايات المتحدة، فإن الابتكار في الذكاء الاصطناعي يظل مدفوعاً بالقطاع الخاص. شركات مثل OpenAI وAnthropic وGoogle DeepMind أصبحت محاور رئيسية في الأمن القومي الأمريكي، وتشارك بشكل مباشر في صياغة التوازنات الجيوسياسية الجديدة. وقد بادرت الإدارة الأمريكية إلى دعم هذا التوجه من خلال تمويلات ضخمة، وقوانين تشجع التصنيع المحلي، أبرزها قانون الرقائق لعام 2022، الذي يهدف إلى تقليل الاعتماد على التصنيع الآسيوي، وبناء قدرة ذاتية متكاملة.
 
ما يجعل الذكاء الاصطناعي سلاحاً استراتيجياً خطيراً هو قدرته على التداخل بين المجالات العسكرية، الاقتصادية، الاجتماعية والنفسية. فمن خلاله يمكن قيادة جيوش افتراضية من الروبوتات والطائرات المسيّرة، والتحكم في أنماط الإنتاج والاستهلاك عبر خوارزميات السوق، والتلاعب بالإدراك العام عبر الذكاء الاصطناعي التوليدي. كما يمكن استخدامه كسلاح سيبراني لاختراق أنظمة الدفاع والبنية التحتية للدول، أو لإدارة شبكات التأثير والدعاية الرقمية عبر أنظمة توصية دقيقة. هذا التداخل يجعل من الذكاء الاصطناعي قوة هائلة لا يمكن ردعها بسهولة، ولا تنظيم استخدامها عبر القوانين التقليدية.
 
في المقابل، تنشأ مخاطر هيكلية تهدد بتفجير التوازن العالمي. فالتفوق في الذكاء الاصطناعي قد يخلق فجوة جديدة بين القوى الكبرى والدول المتوسطة أو الضعيفة، مما يزيد من تبعيتها الرقمية، ويفقدها سيادتها التقنية. كما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب في سباق التسلح، خصوصاً مع دخول أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى مجالات مثل إطلاق الصواريخ، التنبؤ بالحروب، أو اتخاذ قرارات حاسمة دون تدخل بشري. كل هذا يهدد بتحول الذكاء الاصطناعي إلى نسخة رقمية من “الردع النووي”، ولكن دون ضمانات للرقابة أو الفهم المتبادل بين الأطراف.
 
إن العالم اليوم على مشارف نظام جديد لا تكتبه الجيوش فقط، بل الخوارزميات أيضاً. ومع تصاعد هذا السباق، سيكون السؤال الجوهري هو: من يكتب خوارزميات العالم؟ ومن يملك الحق في صياغة عقل البشرية؟ فإذا كان النفط هو ثروة القرن العشرين، فإن البيانات والذكاء الاصطناعي هما سلطة القرن الحادي والعشرين. وفي ظل غياب أطر قانونية وأخلاقية دولية جامعة، فإن من يسبق في هذا السباق سيفرض منطقه، وحدوده، ومصالحه، على بقية العالم.
 
لهذا، لا يمكن فهم الذكاء الاصطناعي بمعزل عن موازين القوى العالمية. فهو ليس أداة مستقلة عن الجغرافيا السياسية، بل هو بحد ذاته شكل جديد من الجغرافيا، حيث لا تحده الحدود، ولا تحكمه الجغرافيا، ولكنه يعيد تشكيل العالم وفقاً لمن يملكه. الصين وأمريكا لا تتصارعان فقط على التفوق التقني، بل على هوية النظام العالمي القادم، وعلى من سيكتب التاريخ بلغة الخوارزمية.