يُولد الإنسان ليجد نفسه ملقى في عالم لم يختره، في زمن لم يحدده، وبين تشابكات اجتماعية وتاريخية لم يصنعها. هذا ما يسميه هايدغر بـ"الإرتماء "، حيث لا يملك الكائن البشري خيار البداية، لكنه يُحمّل بثقل المعنى والواجب في مواجهة وجود لا يمنحه إجابة جاهزة. وفي قلب هذا الطرح الوجودي، يقف الأستاذ ، لا كفاعل حر، بل ككائن أُلقي في مهنة أصبحت مع مرور الزمن مرادفًا للاحتراق التدريجي. لم يُستشر حين وُزعت الأدوار، لكنه وُضع في قلب الدائرة، وكُلّف دون سؤال بإبقاء ما تبقى من سنا ضوء في مجتمع يمارس الهروب الجماعي من المسؤولية.
الكل يرمي جمرة الإخفاق في حضن هذا الكائن "البروميتيوسي" . لا تُقدَّم له أدوات الإطفاء، ولا يُسمح له بإلقائها جانبًا، بل يُطالَب أن يحملها – رغم وعيه بأنها ليست مسؤوليته لوحده – وأن يُبقيها متقدة، لا لتنير، بل لتُحمّله الذنب إن هي خمدت. هو المُلقى في نظام يُفرغ معنى التربية من جوهرها، يُحوّل المعرفة إلى أوامر، والإنسان إلى تروس ، والكلمة إلى وثيقة باردة لا تنبض. هو الذي يُتوقع منه أن يصلح ما انكسر ويقوم الاعوجاجات دون أن يُمنح سلطة الفعل أو الحق في الاعتراض. ولو شكليا .
وتتوالى الأيام عليه بطيئة بين جدران تكويه بلظاها . لا أحد يُصغي لوجعه، ولا أحد يراه حين ينهار في صمته. جسد يذبل تحت ثقل الروتين، روح تنكمش كلما اضطر أن يردد أغاني حزينة لا يؤمن بها ولم يشارك لا في كتابة كلماتها ولا في تلحينها ، وعقله يتآكل وهو يحاول فهم منطق العبث في قرارات تتناقض مع جوهر رسالته نفسها. وفي مجتمع يقدّس منطق السوق ويهرب من المساءلة، يصبح الاستاذ بطلا إشكاليا يبحث عن قيم مثلى في عالم منحط ، يُحاسب حين يفشل النظام، ويُنسى حين ينجح رغم العوائق.
هو لا يموت فجأة. بل يتسرب منه الوجود شيئًا فشيئًا. يبدأ بالاحتراق النفسي، ثم الجسدي، ثم يأتي الموت الأشد: الموت الاجتماعي،إن لم يكن بالساطور . لم يعد يُرى، لم تعد كلماته تُسمع، صار ظلًا يتحرك وسط ضجيج الصمت المطبق . إنه انتحار بطيء لا يُسجَّل في دفاتر الدولة، لكنه يُكتب كل يوم في سطور الخيبة، على سبورةٍ تمحوها يد النسيان.
ولعل أقسى ما في المأساة أن من فشلوا في بناء منظومة عادلة هم أنفسهم من يطالبون هذا الكائن بصنع المعجزات. يُحاصرونه بخطط جوفاء، ويُلقون عليه الشعلة كأنها تاج، بينما هي في حقيقتها نار تستعر في كفٍّ لم يعد يقوى على الاحتراق. ومن لا يستطيع الإمساك بها بشرف الفهم والرؤية، فليتوقف عن التظاهر بالحكمة. إن المفاتيح التي لا تفتح إلا أبواب العجز، يجب أن تُرمى. أما الشعلة، فلن تنير الطريق إلا إذا مُررت إلى من يحملها بوعي لا يُحرق، بل يُضيء.