كان يا مكان في غابر الزمان ومتنائي المكان وغائر الأمصار والصحاري والوديان، عصابة من ثلاثة رهط رجال. اثنان منهم يأتمران وينتهيان بأوامر كبيرهم في صغائر الأمور وكبيرها. استسلموا لابتسامة الزمن الغادر فاستأسدوا وافترسوا وعاثوا في الارض وأهلكوا النسل والحرث! لكن الأقدار لم تكن دائما لتسمح بدوام الزور والبهتان، لأن دوام الحال من المحال. هي مشيئة الخالق الرحمان وسر خلقه في البرية والأنام منذ الأزل ومنذ كان.
وفي يوم قرر الثلاثي الغارة على قافلة مارة وعادوا بغنائم ذات وفرة. وعند وقت القسمة، زاد طمع كبيرهم فأشار عليهم بنيل نصف الغنيمة وترك النصف الآخر للغريمين. وهو ما أثار حفيظة الاثنين.
وبعد تدافع ونقاش، وفي غفلة منه، سقط كبيرهم قتيلا! التفت القاتل إلى صاحبه وصاح في وجهه أنا من أزهق روحه وبذلك ستعود لي قسمته.
استشاط الغريم الشاهد غضبا ولم يستسغ كيف لصاحبه أن يغرس خنجرا في صدر كبيرهم لكبر نهمه، ثم يسير على سيره ويزداد طمعه.
انتهت القصة بجروح غائرة كانت نصيب كل منهما بعد شجار دموي بين الرجلين فارقا على إثره الحياة، بعد أن تعذرت القسمة العادلة فكانت سبب الممات.
أصبحت القصة اليوم قولا دارجا مأثورا "ما شافوهمش كيسرقوا شافوهم كيقسموا".
كان ذلك في غابر الزمان. لنعد الى الحاضر!
فقط وجب التذكير بأن أي تشابه أو تطابق بين شخصيات القصة والواقع هو من وحي خيال القراء.
أصبح المثل الدارج اليوم متداولا في سياق مصطلحات ومفاهيم عززت المعجم السياسي الراهن ببلادنا وبحمولة دلالية تمططت لتشمل ذو الساقين (الإنسان)، بعد ما كانت محصورة في نطاق ذوات الأربع (الحيوان). "كالفراقشي" و"الشناق" وغيرها.
المثير أن هذه المفاهيم ولجت المعجم السياسي على يد، أو ربما أرجل، السياسيين أنفسهم بعد أن اختلط عليهم "الشنق" بين البهيمة والإنسان، وبعدما أصبح "التفرقيش" (سرقة البهيمة بحملها من أرجلها) لا يختلف عن سرقة جيب المواطن ودون أدنى مجهود أو عناء، بل وهو قابع في بيته وأرجله مثبتة فوق الأرض! والسياسي "يحنزز" (يحدق) في وجهه! ويغتني على حسابه، ويزيد من معاناته ويجهز على ما تبقى من قدرته، عوض الترافع عن أوضاعه، والعمل على تحسين حالته، وهو من انتدبه للغرض ذاته.
النتيجة، عجز غالبية المواطنين عن اقتناء رطلي لحم لأطفالهم، أجيال المستقبل، في زمن الجيل الأخضر، والتهافت على حكومة المونديال الذي غاب في عهدها القطيع من القرى والجبال، واضطر في عهدها عاهل البلاد إلى إلغاء شعيرة الأضحى، بعد أن أضحت الأضحية عملة نادرة، ومخطط المغرب الأخضر مجرد جملة عابرة، بالرغم من الكلفة المالية والمائية الفاحشة والفلكية.
تقارير المندوبية السامية للتخطيط سبق وأن وضعت الأصبع على الخلل: التضخم ثلاثي الهيكل: هشاشة الإنتاج، هيمنة الشناق، أولوية التصدير. فيما تختبئ الحكومة وراء ثلاثي آخر في ما يشبه سياسة النعامة، كوفيد، تضخم خارجي، حرب روسيا. وهي في الواقع ليست الأسباب الحقيقية، وانما العوامل الفاضحة لها والكاشفة عن واقعها الحقيقي.
ظل عناد الحكومة مستمرا حتى شهد شاهد من أهلها، وزير يعنى بالتجارة كشف عن معطيات صادمة حول السماسرة والشناقة وكيف ابتلعوا الملايير، دعم وإعفاء من الرسوم، دون أي أثر ملموس على الجيوب.
بعده خرج زعيمه النزور يثبت الأرقام ويستفيض في بسطها، ليأتيه رد صاعق، ولو في لبوس الكياسة، من حليف في الحزب الأغلبي وهو يعنيه: معطياتكم غير مضبوطة، وأرقامكم خاطئة، وكلامكم مغلوط.
الغريب أنهم اختلفوا في الأرقام، وغيبوا الرقم الصعب الذي هو الإنسان، وكأن الرهان ليس تصحيح المسار وتقويم الخيار، وإنما فقط تراشق الأرقام، وليس تقديم الحساب لمن استباح السوق والدعم والكرامة والسيادة.
والواقع ان كل أرقام التراشق الحكومي مغلوطة. الرقم القريب للمعلومة الصحيحة وللمنطق يتجاوز 1000 مليار سنتيم.
- 500 ألف رأس غنم بدعم 500 درهم للرأس يساوي 250,000,000 درهم.
- زائد الإعفاء من الرسوم الجمركية ومن الضريبة على القيمة المضافة على الأغنام المستوردة.
- الإعفاء من الرسوم الجمركية ومن الضريبة على القيمة المضافة بخصوص استيراد الأبقار.
- الإعفاء من الرسوم الجمركية ومن الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة للحوم الحمراء.
ناهيك عن 6000 درهم دعم لكل عجلة ضارة مستوردة. واليوم أصبحنا نستورد الحليب المجفف من الهند. فما جدوى الدعم والإعفاء من الرسوم؟ ان لم يكن مجرد تسمين لحسابات وجيوب المقاولين وليس حتى الكسابة او الفلاحين.
محاكمات بالجملة لمنتخبين جماعيين طالهم العزل لشبهة تبديد منح خصصت لإقامة مهرجان في جماعة قروية نائية. وحكومة تعترف بعظم لسانها بتبديد ملايير الدراهم بل وتتزايد على بعضها حول حجم تبذير الأموال الطائلة ومن جيوب المواطنين وعلى حسابهم دون حسيب أو رقيب، أو حتى اعتذار.
هو تكريس لإطلالة جديدة في عهد حكومة "الكفاءات": المحاسبة تطال الضعفاء، والبسطاء من الرعية، التي لا يراعى لحالها وضنك عيشها. أما الأقوياء فلهم الدعم، والإعفاء، والسند، وحمية القانون بعد أن استنفذوا وكالوا كل الكيل لجيوب المواطنين.
جاء في الحكمة، المصائب نوعان حظ عاثر يصيبنا، وحظ حسن يصيب الآخرين. نهرب من المطر، فنصادف البرد.
وعندما تسقط الدراهم من السماء، يفتقد سيئ الحظ الكيس. وعندما نمتلك الكيس ينقصنا القمح، وعندما نمتلك القمح ينقصنا الكيس.
ليبقى السؤال، أهو الحظ العاثر! أم النحس القاتل! أم هما معا! أترك لكم الجواب.
محمد أوزين / الأمين العام لحزب الحركة الشعبية