كانت مدينة أكدير مدينة جميلة ورائعة عندما زرتها الأسبوع الماضي بدعوة كريمة من الإخوة في الجمعية المنظمة لـ"مهرجان السينما والهجرة". يومان ونصف اليوم كانا كافيين للاستمتاع بحسن الضيافة وببرنامج دسم من الأنشطة المتباينة. وقد تشرفت ضمن هذا البرنامج، وبمبادرة من الأستاذ المتميز والقوي الحضور رئيس جامعة ابن زهر العزيز "عمر حللي"، بتقديم الدرس السينمائي الجميل والغني الذي نظ بـ"المدرسة الوطنية للتجارة والتدبير" وبإحدى قاعاتها الرائعة التجهيز والتصميم والوظيفية، والذي كانت ضيفته مستشارة الرئيس الفرنسي والوزيرة السابقة والمخرجة السينمائية ذات الأصول الجزائرية - رئيسة لجنة التحكيم في نفس الوقت - السيدة "ياسمينة بن غيغي". كان الطلبة ملائمين ودقيقين في أسئلتهم بحيث تفاجأت مقارنة بتجارب سابقة.
لنعد إلى المهرجان ككل.
هواتف لا تتوقف عن الرنين ورجال محترمون يتحركون ليتم كل شيء على ما يرام وليتم تنفيذ البرنامج. تم ذلك وتحققت كل الفقرات لكن: هل يكفي أن يتم تنفيذ كل البرنامج أم أن الأهم هو طريقة وأسلوب وشكل وصيغة التنفيذ؟
كما في أغلب المهرجانات الصغرى، هذه التظاهرات صغرى بإمكاناتها بكل تأكيد، لكنها صغرى أيضا وعلى الخصوص بما يلي:
- بأفكارها وبتصوراتها التي تحدد قناعة مشتركة فكرية وفنية وجمعوية بل وسياسية تجعل المنظمين يعرفون لماذا يقومون بهذا النشاط بالتحديد الشامل المعنى، فقد علمتنا التجربة الطويلة لأكثر من ثلاثين سنة من العمل الفكري والجمعوي والفني الإبداعي والبيداغوجي …أنهم غالبا ما يخمنون باستخفاف أهدافهم، الغايات أبعد، انطلاقا من بديهيات ومسلمات لم يخضعوها لا للتفكير ولا للنقاش ولا للصياغة في ورقة واضحة المعالم قوية الحجج ملائمة التحليل.
- وبتوزيع المهام بين القائمين عليها، اعتبارا لأن التظاهرات ليست مجرد تجميع لفنانين ومثقفين وتقنيين وصحافيين وسياسيين بمستويات وتصورات متنافرة ومتباعدة شكلا ومضمونا اختيارات وتجارب، بل هي فضاء قادر على استخراج الجيد من هذا التعدد خدمة لفضاء المهرجان الثقافي والاجتماعي وإلا فالذي سيحدث هو أن النصف يأتي للسياحة والربع لاصطياد فرص ما، والباقي قد يكون حسن النية يعطي شيئا من الفائدة للمنطقة،
- وبغياب تصور فني وتنظيمي يحدد بدقة من يقوم بماذا وكيف وفي أي وقت وطيلة أي مدة وبأي أسلوب، حتى لا تجد ضيوفا سوبر، وآخرين متوسطين والبعض الآخر وجهت له الدعوة صدفة أو عرضا أولست أدرى. هو ما يظهر جليا في الاهتمام وكرم الضيافة الذي لا ينصب بالضرورة على من يفيد التظاهرة، بل قد ينصب على حضور ضعيف ينبع من تصورات وهمية لدى المنظمين، غالبا ما تنبني على الذاتي دون مبرر مقنع، إننا نعتقد أن الذاتي مطلوب لكن ينبغي أن يقترن بالفائدة العميمة والعمومية، فجماهير الشعب المتابعة لهذه المهرجانات هي مبرر إقامتها ونجاعتها، لذا لا ينبغي تقديم نماذج رديئة لهم لأنها فضاء لتماهيهم مع شخصيات - همومية من المفروض - قد تكون ضارة كنماذج للتماهي والنمذجة في الطموح، وخاصة عندما تكون خاوية الوفاض أو ضحلة العطاء وركيكة المنطق وسيئة السلوك.
ليس هذا نقدا بل تحليل غالبا ما تتردد أجزاء منه على لسان كل المشاركين بل حتى المنظمين لهذه المهرجانات وقد ارتأيت أن أصوغها في هذه العجالة وأن أعممها لكل فائدة محتملة تجنبا لأسلوب ضيوف الأعراس الذين لا يعجبهم العجب ولكنهم لا يبدون إلا عكس ما يضمرون لأصحابه.
وماذا عن فدرالية المهرجانات؟
يبدو أن الفكرة قديمة نسبيا، جميل: سأعود للموضوع بتفصيل أكثر حالما تتوضح معالمه لكن:
ما يهم اليوم من فكرة "هيئة الضغط للحصول على اعتبار أهم والبحث عن وسائل وإمكانات وإشعاع أكبر"، فكرة دعم وتقوية نشاط مدني من المفروض أن يعبئ الطاقات، ويفيد الشباب، ويحرك حقلا استراتيجيا للتنمية ولبناء مجتمع الحقوق والحريات والعقلانية، ما يهم اليوم هو عرض بعض المخاوف، أما حسنات الفكرة التي تبدو في الأفق فلن تتحقق إلا بالممارسة.
إن نظرة سريعة لواقع المهرجانات، أو ما يدعى كذلك، ستجعل المرء يلاحظ بأن التراتبية فيه تتأسس، على وجه العموم، جزئيا على التمكن من التجربة والعمل في إطار احترافي وبفريق عمل متكامل ومتعدد المهارات بالفعل لا الوهم، ولكن هذه التراتبية تتأسس أيضا على قوة العلاقات والقرب من دوائر دعم القرار السياسي والاقتصادي والأمثلة كثيرة ركبها بنجاح كمي حتى بعض الشباب والشيب المنعدمي الخبرة في أبسط قواعد التعبير والتواصل ـ وفتح الله عليهم، نسبيا فيما بعد ـ وهو ما يمكن البعض، بقليل من الذكاء، من توظيف بعض الكفاءات والاستفادة من تجربتها بمقابل، وذلك للتغطية عن انخراطها في حقل لا تفقه فيه شيئا، هدفها جني فوائد الاشتغال فيه، مالا وشهرة وتقربا دوريا ومنتظما من الأضواء بل وبناء لصورة لمواطنة معطاء.
من الغباء اعتبار السعي وراء الكسب عيبا، لكن احتلال الصفوف الأولى عن دهاء وليس عن كفاءة ضرر للبلاد وللعباد وقلب للمفهيم ونحت لنماذج تسويقها ضار جدا إعلاميا وهو ما نحن غارقون فيهحتى النخاع. أما إذا كان الدهاء كتحايل على الكفاءة في الإبداع لنيل المكافآت والحظوة ن حركية سياسية وبنائية بالبلد حذقا يجازى عليه، فذلك أمر آخر لأنه في الواقع ينسجم وواقع الحال في بلدي.