بناء على مشاركتي في برنامج "الجامعة في السجون، النسخة 14، تحت شعار: الذكاء الاصطناعي جسور ذكية للتأهيل وإعادة الإدماج"، وقفت على إشراقة مهمة في السجن، ألا وهي ذاك الشغف الشديد للنزلاء الطلبة في التحصيل والنبوغ.
وهذا ما يجعلنا نستحضر ماتبناه الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، من رفض للعقوبة كغاية، والتخلي عن القصاص الجسدي، داعيا إلى الأخذ بتلطيف العقوبة في الحدود النافعة، وتحويل الجسد من موضع لتنفيذ العقوبات إلى جسد منتج ونافع، أي من جسد منفلت تمارس عليه أبشع طرق القهر والتعذيب إلى جسد انضباطي يقترن بالإصلاح والتأهيل. إذ انتبه الإصلاحيون الفرنسيون، في القرن الثامن عشر، إلى أن الهدف الرئيسي من السجن لا ينبغي أن يكون هو الانتقام من المجرم، بل منع وقوع جرائم مستقبلية؛ وهو ما أدى، حسب فوكو، إلى بتر الألم الذي يقع على السجناء، ألم القضاة وألم الجمهور القاسي، وكل ألم غير مستحق يقع على جسد المحكوم.
السؤال الذي يُطرح علينا مغربيا هو: هل أدت سياسة "أنسنة المؤسسات السجنية" التي باشرها المغرب، منذ أكثر من ربع قرن، إلى بتر الألم عن أولئك السجناء الذين اختاروا استكمال دراستهم الجامعية في مختلف التخصصات، على امتداد خريطة الجامعات المغربية؟ وهل ساهم برنامج " الجامعة في السجون" في تبديد العسف الذي يلحق طلبة السجون، وإخراجهم من المحفل العقابي إلى المحفل الاندماجي؟
حتى الآن، وحسب ما أكده رئيس قسم التأهيل التربوي والعمل الإجتماعي والثقافي لفائدة السجناء بالمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، في يونيو 2024، بلغ العدد التراكمي لمشاركة النزلاء في برنامج "الجامعة في السجون، ما مجموعه 2397 نزيلا، مع توقيع 13 اتفاقية شراكة، وتنظيم 39 نشاطا ثقافيا وفنيا موازيا، وإنجاز 4 أفلام مؤسساتية، لافتا إلى أن عدد المشاركات بلغت 149 مشاركة، تتوزع ما بين 50 أستاذا جامعيا، و35 مؤسسة عمومية، و25 جمعية من المجتمع المدني، و22 رئيس جلسة، و12 مشاركا أجنبيا، و4 فنانين، وصانع محتوى.
تثبت هذه الأرقام أن السجن كجهاز للضبط والإكراه يسعى إلى جعل فضاءات الاعتقال رافعة جامعية حقيقة لإعادة إدماج السجناء الجامعيين مجتمعيا، وذلك عبر تفعيل "جيل جديد من القوانين" بإمكانه أن يؤدي إلى تخريج جامعيين حاصلين على أعلى الشهادات، ولم لا علماء وخبراء وأخصائيين وأساتذة جامعيين؟
لقد أخذ عدد كبير من نزلاء السجون المغربية يحرص على الالتحاق بالجامعات، مما يفسر تزايد الطلب على الالتحاق بامتحانات اجتياز الباكالوريا. ويُعَدُّ هذا الحرص دليلاً على رغبة هؤلاء السجناء في الاستفادة من الفرص التي يتيحها لهم هذا البرنامج للمضي قدماً نحو مستقبل أكثر إشراقا.
غير أن المثير للانتباه، وهو ما يشهد به عدد كبير من الأساتذة الجامعيين ومسؤولي الإدارة السجنية، أن القاسم المشترك لدى هؤلاء الطلبة السجناء هو الشغف بالتعلم والتفوّق الدراسي والانضباط العلمي، والجدية في البحث والتحصيل، فضلا عن التميز في جميع الاختبارات الوطنية، وصولاً إلى شهادة الإجازة أو الماستر أو الدكتوراه.
ويمثّل التحصيل العلمي لدى هذه الفئة من النزلاء تحدياً كبيرا وحاسما، إذ يصرون، على تحقيق نجاحات داخل أسوار المؤسسات السجنية، في أفق تحقيق نجاحات أخرى خارجها، خاصة أنهم أبدوا انضباطا منقطع النظير، على مستوى التحصيل، وعلى مستوى الأخلاقيات، الأمر الذي يكشف أن جينات الإجرام لا تجري في عروقهم، وأن الظروف الاجتماعية والأقدار يساهمان، أحيانا، في إنتاج فعل يقود إلى السجن، مما يجعل أغلب السجناء يحتاجون إلى دعم المجتمع، وليس إلى العقاب.
ويؤكد بعض الأساتذة الذين يترددون على المؤسسات السجنية أنهم يخوضون تجربة التدريس داخل الأسوار بمحبة كبيرة، لأنهم يعرفون أنهم سيجدون طلبة في مستوى التوقع، يتميزون بالذكاء والجدية وحسن الإنصات وجودة التفاعل. كما يؤكدون أن طلبتهم نجباء وذوو أخلاق عالية، ولديهم إصرار على مواصلة مسارهم الدراسي والعلمي، رغم ظروف الاعتقال والحرمان من الحرية، وأن هذا هو الأثر الإصلاحي الكبير الذي اختفى من المؤسسات الجامعية التي يدرسون بها، إذ يرتادها الآن طلبة يفتقدون إلى الطموح العلمي والانضباط الأخلاقي.
ومع ذلك يظل السؤال مطروحا: هل يعتبر الاستثمار في التحصيل العلمي الجامعي للسجناء، بالفعل، سلاحا مهما للعودة السريعة والناجحة إلى المجتمع بعد انقضاء العقوبة السجنية؟ هل يضمن استكمال المسار الدراسي والحصول على شهادة جامعية عودة آمنة إلى المجتمع؟ هل ينتهي بذلك "الوصم الاجتماعي لهؤلاء المساجين؟
إن ما أثبته الطلبة السجناء (وما زالوا يثبتونه كل يوم) يدعو، على وجه الاستعجال، إلى توجيه الجهد العام نحو تسهيل إعادة إدماج الجامعيين الذين أُطلق سراحهم، لما بذلوه من جهود، ولما أبانوا عليه من سلوك أخلاقي وكفاءة علمية ورغبة في العمل. وإذا كان السجن قد منحهم الفرصة لإظهار الحيوية نحو العمل، فعلينا جميعا أن ندعم اندماجهم العلمي والعملي على النحو الذي يتيح حفظ كرامتهم، وهذا هو الجانب المشرق للعدالة.
حسن توراك، أستاذ التعليم العالي، منسق ماستر التميز في الحكامة الترابية بكلية الحقوق/جامعة الحسن الثاني عين الشق بالبيضاء