للمرّة الأولى، ربّما، يتحدّى صندوق النقد الدولي عقيدته الاقتصادية الراسخة التي هيمنت على منشوراته وتوصياته طوال العقود الخمسة الماضية. وفي ورقة بحثية غير مسبوقة بعنوان «أهمّية منع الصراعات: منظور اقتصادي»، يعترف بأن سياسات التقشّف مدمّرة، وأن السوق الحرّة ليست دواءً سحرياً، بل يجب على الدول التدخّل في رسم السياسات الاقتصادية لتجنّب الاضطرابات التي قد تهدّد السلم المجتمعي. ويشير البحث إلى العنف الكامن في سياسات التقشّف، التي ثبت أنّها تؤدي إلى اندلاع نزاعات مسلّحة، ويتناول دور «جيش الاحتياط» من العاطلين عن العمل كأداة لتخفيض الأجور، وهو ما يرتبط مباشرةً بإشعال الحروب وإطالة أمدها.
تجلّت العلاقة بين النيوليبرالية والنزاعات بوضوح في العام 2001، بالتزامن مع غزو العراق، فيما وصفته الكاتبة نايومي كلاين بـ «رأسمالية الكوارث». ففي خلال الربع قرن الأخير، وجد الكثير من أصحاب رؤوس الأموال فرصاً مربحة في النزاعات، مستفيدين من استثمارات الدولة في تطوير أسلحة أكثر تدميراً، وارتفاع أسعار الأسهم مع عقود التسلّح، وازدهار شركات الأمن الخاصّة التي تجني الأرباح أثناء الصراعات وشركات البناء التي تجني الأرباح في مراحل إعادة الإعمار. ولكن تأتي هذه الورقة لتؤكد ما حذّر منه المراقبون منذ زمن وهو أن رأسمالية الكوارث قد تحقّق مكاسب سريعة لقلّة قليلة، لكنها تبقى في النهاية مدمّرة للمجتمعات وللرأسمالية نفسها على المدى الطويل.
الكلفة الاقتصادية للنزاع
عرّفت الورقة البحثية النزاع بأنه حالة من التنازع على السلطة أو الأرض، ويؤدّي إلى ما لا يقل عن 25 وفاة مرتبطة بالقتال سنوياً. واستند البحث إلى بيانات جمعت بين كانون الثاني/يناير 2000 ونيسان/أبريل 2023، مرتكزاً على قاعدة بيانات عالمية تركّز على الدول الهشّة والمتأثرة بالنزاعات، إضافةً إلى الاقتصادات النامية. وأظهرت النتائج أن الدول التي تقع في دوّامات عنف متكررة تعاني تدهوراً اقتصادياً حاداً، وتراجعاً في معدلات الاستثمار، فضلاً عن عدم الاستقرار المالي. وتمتد كلفة النزاع إلى ما هو أبعد من الدمار المباشر للبنية التحتية والخسائر البشرية، إذ تنعكس تداعياته على الاقتصاد بأكمله وتعرقل التنمية على المدى الطويل.
ومن أبرز الآثار الاقتصادية للنزاعات تأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي. فقد أظهرت الورقة أن الكثير من البلدان العالقة في دوّامة النزاع تشهد ركوداً اقتصادياً طويل الأجل أو حتى تراجعاً في النمو، وأن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول المتأثرة بالنزاعات ينمو بوتيرة أبطأ بكثير مقارنة بالدول المستقرة، بل قد يتراجع في بعض الحالات. فعلى سبيل المثال، في الدول التي تشهد نزاعات عنيفة، قد ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 9.2% سنوياً، ما يعدّ ضربة موجعة لاستقرار الاقتصاد وآفاقه المستقبلية. كذلك، يؤدي النزاع إلى تراجع الاستثمارات بشكل حادّ، إذ يتفادى المستثمرون المحليون والأجانب البيئات غير المستقرة حيث تكون مصالحهم مهددة بالتدمير أو المصادرة. وفي الدول العالقة في فخ النزاع، تتراجع حصة الاستثمار في الأصول الثابتة من نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 20% فقط، ما يعرقل التنمية الاقتصادية ويحد من خلق فرص العمل.
سياسات التقشّف مدمّرة، وأن السوق الحرّة ليست دواءً سحرياً، بل يجب على الدول التدخّل في رسم السياسات الاقتصادية لتجنّب الاضطرابات التي قد تهدّد السلم المجتمعي.
تواجه الحكومات في الدول الغارقة في النزاعات عوائق مالية جسيمة، إذ تتقلص الإيرادات الضريبية مع انكماش النشاط الاقتصادي، ما يجعل من الصعب تمويل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحّة والأمن. وغالباً ما تنخفض عائدات الحكومة في هذه الاقتصادات إلى أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 25% في الدول التي تتجنّب الوقوع في النزاع. ويؤدّي هذا النقص في التمويل إلى إضعاف المؤسسات الحكومية وتقويض قدرتها على الحفاظ على الاستقرار، ما يزيد من احتمالية استمرار الاضطرابات.
تتسبّب النزاعات المسلّحة في تعطيل سلاسل التوريد وإحجام التجارة عبر الحدود أيضاً، بالإضافة إلى دفع الأعمال التجارية إلى الانتقال إلى مناطق أكثر أماناً. إذ تؤدي الحروب الأهلية إلى تقليص حجم التجارة بنحو 25%، وقد ترتفع هذه النسبة في بعض المناطق. وفي الوقت نفسه، تتسارع وتيرة هروب رؤوس الأموال، ما يحرم الاقتصاد من الموارد الضرورية لإعادة الإعمار.
فهم «فخّ النزاع»
يُعدّ «فخّ النزاع» من أخطر تداعيات الحروب، إذ يؤدّي العنف والاضطراب الاقتصادي إلى تغذية بعضها بعضاً، ما يجعل الخروج من دوائر العنف أمراً بالغ الصعوبة. فالدول التي تواجه نزاعات تصبح أكثر عرضة لتكرارها مستقبلاً بسبب ضعف المؤسسات، والأزمات الاقتصادية، وانعدام الاستقرار السياسي. وكلّما طالت مدة النزاع، ازدادت صعوبة استعادة الاستقرار وإعادة بناء الاقتصاد.
إحدى أبرز العوامل التي تساهم في استدامة النزاع هي الدمار طويل الأمد الذي يلحق بالمؤسّسات الحكومية. إذ غالباً ما تحوّل الحكومات المنخرطة في نزاع جزءاً كبيراً من مواردها بعيداً من الخدمات الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، وتخصّصها للجهود العسكرية والأمنية. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا إلى تقويض قدرات الدولة وإضعاف الثقة بين الحكومة والمواطنين. ومع تدهور الخدمات العامة، تتصاعد حدّة الإحباط الشعبي، ما يذكي مشاعر الاستياء التي قد تستغلّها جماعات مسلّحة أو أطراف سياسية معارضة لتحدّي السلطات.
بالإضافة إلى ذلك، يعرقل النزاع النشاط الاقتصادي بطرق قد تستمر آثارها طويلاً بعد انحسار القتال. إذ تُغلق المؤسسات التجارية، وتنهار مسارات التجارة، ويُدفع العمّال المهرة إلى الهجرة، ما يخلّف خسائر اقتصادية جسيمة. كما يُحجم المستثمرون المحليون والأجانب عن ضخّ أموالهم في مناطق ينظرون إليها على أنّها عالية المخاطر، ما يؤدي إلى انخفاض فرص النمو الاقتصادي. وحتى إن مرّت الدولة بفترة سلام نسبي، فإن الركود الاقتصادي والبطالة يجعلان شرائح واسعة عرضة للانضمام إلى جماعات مسلّحة أو أطراف أخرى تقوّض الاستقرار.
حتى إن مرّت الدولة بفترة سلام نسبي، فإن الركود الاقتصادي والبطالة يجعلان شرائح واسعة عرضة للانضمام إلى جماعات مسلّحة أو أطراف أخرى تقوّض الاستقرار
تشير ورقة صندوق النقد الدولي إلى أمثلة عدّة توضح هذا الواقع. فقد كافحت دول عدّة مثل أفغانستان وسوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى للخروج من دوّامات العنف نتيجة الانهيار الاقتصادي والتشرذم السياسي. وفي هذه الحالات، غالباً ما تُحبَط جهود إعادة الإعمار بسبب تجدّد النزاع، ما يؤكّد الصعوبة البالغة للتحوّل مباشرةً من الحرب إلى السلام الدائم من دون تدخّلات طويلة الأمد ومُحكمة التصميم.
وتكمن خطورة «فخّ النزاع» في كونه لا يتطلّب بالضرورة حرباً واسعة النطاق كي يستمر. فحتى أشكال العنف المنخفضة الحدّة، مثل الاشتباكات المسلحة المتفرقة، وحركات التمرد، والجريمة المنظمة، يمكن أن تعيق التعافي الاقتصادي وتُبقي البلاد في حالة هشاشة. إذ يؤدي استمرار العنف، ولو بمستويات أقلّ، إلى إدامة حالة انعدام الاستقرار وارتفاع المخاطر، ما يثبّط عزيمة كل من القطاع العام والخاص عن الاستثمار في جهود إعادة البناء.
السياسات الاقتصادية الكلية كأدواتٍ للسلام
إن الاستثمار في منع النزاعات ليس مجرّد التزام أخلاقي، بل هو أيضاً قرار اقتصادي استراتيجي يتّسم بعوائد مالية ملموسة. يشير بحث صندوق النقد الدولي إلى أن كل دولار يُنفق على الوقاية قد يوفّر ما بين 26 و103 دولارات من المكاسب الاقتصادية المستقبلية، بحسب سجل الدولة في النزاعات. ففي البلدان التي لم تشهد عنفاً في الآونة الأخيرة يتراوح العائد بين 26 و75 دولاراً مقابل كل دولار ينفق على تجنّب النزاعات، بينما يصل إلى 103 دولارات في الدول التي خاضت نزاعات حديثة. تعكس هذه الأرقام الوفورات الناتجة عن تفادي الدمار الواسع والانكماش الاقتصادي، بالإضافة إلى تجنّب تكاليف إعادة الإعمار الباهظة في مرحلة ما بعد النزاع.
من أبرز الأمثلة على أثر السياسات الوقائية في الاقتصاد هو دور الاستقرار المالي. فقد خلصت الدراسة إلى أن تحسين ميزان المالية العامة للبلد بنسبة 1.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي يؤدّي إلى انخفاض بنسبة 9% في الوفيات المرتبطة بالنزاع.
وتؤدّي سياسات التوظيف دوراً محورياً في خفض وتيرة العنف، إذ يؤدي انخفاض معدل البطالة بمقدار 0.8 نقطة مئوية إلى تقليل احتمال اندلاع نزاع بنحو 1.1 نقطة مئوية، بينما تؤدي تحسينات أكبر في ظروف التوظيف إلى تراجع أكثر وضوحاً في مستويات العنف.
كل دولار يُنفق على الوقاية قد يوفّر ما بين 26 و103 دولارات من المكاسب الاقتصادية المستقبلية، بحسب سجل الدولة في النزاعات
في نهاية المطاف، يقدّم بحث صندوق النقد الدولي حجةً دامغة بأن السياسات الاقتصادية الوقائية أكثر جدوى بكثير من السياسات التي تعتمد على الاستجابة للنزاعات بعد وقوعها. فالدول التي تدمج الاستقرار المالي، وتوليد فرص العمل، وتعزيز التعاون الدولي في استراتيجياتها الاقتصادية تمتلك فرصاً أكبر في الحفاظ على السلام ودعم التنمية المستدامة. إذ لا يقتصر تجنّب النزاع على تحقيق الأمن فقط، بل يرتبط أيضاً بتحقيق مرونة اقتصادية وازدهار بعيد المدى.
تؤدّي السياسة الاقتصادية دوراً مباشراً في النزاعات من خلال الإنفاق العام. فعندما تكون السياسة المالية مُحكمة التصميم، فإنها توفر خدمات عامة ضرورية مثل التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وهي مكوّنات أساسية لاستقرار المجتمع. لكن الخفض المفاجئ للإنفاق، خصوصاً في الدول الهشّة، قد يكون له تداعيات خطيرة. تشير الدراسة إلى أن تقليص الإنفاق العام بنسبة تفوق 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي قد يؤدي إلى ارتفاع بنسبة 8.5% في ضحايا النزاعات، ما يؤكّد على أهمّية الحفاظ على الخدمات الحيوية عند تنفيذ الإصلاحات المالية. ويؤدّي التوظيف أيضاً دوراً أساسياً في خفض مستويات العنف، إذ إن البطالة المرتفعة، لا سيّما بين الشباب، تزيد من خطر اندلاع النزاعات نتيجة محدودية الفرص الاقتصادية المشروعة. وتُظهر الدراسة أن الانخفاض الكبير في معدلات البطالة يرتبط بتراجعٍ بنسبة 5.2% في حدّة العنف.
تؤدّي السياسات الاقتصادية الكلية دوراً محورياً في منع النزاعات وبناء السلام، وتتيح التصدي للظروف الاقتصادية التي تُسهِم في اندلاع العنف. وحين تركّز السياسات على الاستقرار المالي، والتوظيف، والنمو الاقتصادي الشامل، فإنها قادرة على خفض احتمالية نشوب النزاعات بشكل ملموس.
عن موقع صفر