ما تزال انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها الصحراويون في جنوب الجزائر، خاصة في مخيمات تندوف، تشكّل جرحًا مفتوحًا في الضمير الإنساني، وسط صمت دولي مستمر. هذه الجرائم، التي تتراوح بين الاحتجاز القسري، والتعذيب، والقمع السياسي، والاختفاء القسري، تتم في ظل غياب آليات المحاسبة، ممّا يطرح تساؤلات حول دور المنظمات الدولية وصمت المجتمع الدولي إزاء هذه الانتهاكات.
وتشير تقارير حقوقية إلى أن الصحراويين في مخيمات تندوف يعيشون تحت سيطرة جبهة البوليساريو في ظلّ ظروف قاسية من القمع والاضطهاد. وكلّ من يجرؤ على معارضة سياسة الجبهة أو يطالب بحقه في التنقل أو التعبير يُزج به في المعتقلات، حيث يتعرض للسّجن التّعسفي والتعذيب الوحشي. منظمات دولية، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، وثّقت حالات تعذيب داخل مراكز الاحتجاز في تندوف، حيث يُعامل المعتقلون بوحشية مفرطة، تصل إلى حدّ الإعدام خارج نطاق القانون في بعض الحالات.
وتعاني العديد من العائلات الصحراوية من ظاهرة الاختفاء القسري، حيث يختفي أقاربهم دون أي أثر بعد اعتقالهم من قبل عناصر البوليساريو أو المخابرات الجزائرية. بعض هؤلاء المختفين يظهر بعد سنوات في مقابر جماعية، بينما يُعتقد أن آخرين لا يزالون محتجزين في سجون سرّية تحت سيطرة الميليشيات المسلّحة.
ويُمنع الصحراويون في مخيمات تندوف من مغادرتها بحرية، إذ يحتاجون إلى تصاريح خاصّة تخضع لمزاج قادة البوليساريو، وعلاوة على ذلك، يتم استغلال اللاّجئين الصّحراويين من قبل تجار البشر، حيث تشير تقارير إلى أن بعضهم يُجبر على العمل القسري، بينما يتم تجنيد الأطفال الذين ينتهي يهم المطاف في الجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء.
استغلال الأطفال بتواطؤ جزائري
إحدى الظواهر الأكثر خطورة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة هي استغلال الأطفال الصحراويين تحت غطاء برامج زائفة مثل ما يسمى “عطل من أجل السلام”، وهو برنامج ظاهريًا يهدف إلى إرسال الأطفال الصحراويين إلى دول أوروبية، وخاصة إسبانيا وإيطاليا، لقضاء عطلة الصيف بعيدًا عن ظروف المخيمات القاسية. غير أن العديد من التقارير كشفت عن استغلال هذا البرنامج كغطاء لعمليات تبنٍّ غير شرعية واتجار بالبشر، حيث يتم إرسال الأطفال إلى عائلات أجنبية دون ضمان حقهم في العودة، وأحيانًا دون علم أهاليهم.
هذا البرنامج الذي بدأ في الثمانينات كوسيلة لكسب تعاطف الرأي العام الأوروبي مع قضية البوليساريو، تحول تدريجيًا إلى تجارة مربحة لبعض القيادات المتنفذة في الجبهة، حيث يتم إرسال مئات الأطفال الصحراويين سنويًا إلى أوروبا دون آليات رقابة حقيقية. وفي حالات كثيرة، لم يتمكن بعض الأطفال من العودة إلى المخيمات، إذ تم إدماجهم قسرا في عائلات أجنبية، بل وتم تغيير هوياتهم، مما حوّلهم إلى ضحايا لفقدان الهوية والانتماء الثقافي.
التقارير الدولية تحدثت عن وقائع مقلقة مرتبطة بهذا البرنامج، حيث أُجبر بعض الأطفال على البقاء في أوروبا دون أي وسيلة للاتصال بذويهم، وتم استغلال بعضهم في أعمال غير مشروعة. إضافة إلى ذلك، كشف بعض النّاجين من هذه البرامج عن تعرّضهم لاستغلال جنسي أو عمالة قسرية داخل البيوت التي تمّ إرسالهم إليها.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه الأنشطة تجري بتواطؤ جهات داخل الجزائر وجبهة البوليساريو، التي تعتبر هؤلاء الأطفال بمثابة “سفراء” للقضية، بينما يتم في الواقع بيعهم بشكل غير مباشر تحت غطاء برامج إنسانية. بعض الأطفال الذين تم تهريبهم إلى أوروبا لم يتمكنوا من استعادة أصولهم وهوياتهم، بعد أن تم تغيير وثائقهم وتسجيلهم كلاجئين أو كأطفال متبنين، ما يجعل إمكانية استرجاعهم شبه مستحيلة.
الاتجار في البشر وصمت دولي
في بعض الحالات، اعترفت عائلات في إسبانيا وإيطاليا بأنهم تلقوا أطفالًا من المخيمات دون أي وثائق رسمية، بل فقط بتزكية من بعض الجمعيات الداعمة للبوليساريو. هذا الأمر يضع مسؤولية كبيرة على الحكومات الأوروبية التي لم تتّخذ إجراءات صارمة للحدّ من هذا النّوع من الاتجار بالبشر، حيث ما زال يتم التّرويج لهذا البرنامج على أنه مبادرة إنسانية، بينما هو في الواقع غطاء لعمليات غير قانونية.
ورغم أن التقارير الدولية تواصل توثيق هذه الظواهر المقلقة، إلا أن المجتمع الدولي، وبالأخص المنظمات الإنسانية، لم تتخذ إجراءات ملموسة وفعالة للحد من هذه الجرائم ضدّ الأطفال الصحراويين. إن استمرار هذه الممارسات يشكل انتهاكا صارخا لكل المواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الطفل، وعلى رأسها اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطّفل التي تحظر أيّ شكل من أشكال الاتجار بالقُصّر أو نقلهم خارج بلادهم دون موافقة صريحة من أوليائهم.
تقارير وثقت لانتهاكات جزائرية.. وازدواجية التعامل
على الرغم من أن تقارير عدة وثّقت الانتهاكات في جنوب الجزائر، إلا أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لم يتخذ مواقف حاسمة ضد هذه الجرائم. وبالمثل، فإن بعض المنظمات الحقوقية الدولية تتعامل مع هذه القضية بحذر شديد، إما بسبب نقص المعلومات أو الضغوط التي تمنع أي تحقيقات مستقلة داخل المخيمات.
يلاحظ أن المجتمع الدولي يتعامل بازدواجية مع قضايا حقوق الإنسان، حيث يتم تسليط الضوء على بعض الانتهاكات في مناطق معينة، بينما يتم تجاهل أخرى تخدم مصالح بعض الدول. هذا التناقض يسمح للانتهاكات بالاستمرار دون أي محاسبة فعلية.
ما المطلوب لكسر الصّمت؟
يجب على المنظمات الحقوقية والصحافيين الاستقصائيين توثيق الانتهاكات بشكل أكثر تفصيلًا، مع تقديم ملفات قانونية أمام محكمة الجنايات الدولية ولجان الأمم المتحدة المختصة. الأدلة الموثقة يمكن أن تشكّل ورقة ضغط قويّة وتجبر المجتمع الدّولي على التّحرك. كما يجب مطالبة الدّول الداعمة لحقوق الإنسان إثارة القضية في المحافل الدولية، واستخدام الإعلام الدّولي لكشف الجرائم المرتكبة في جنوب الجزائر وتسليط الضّوء عليها. بدعم الشهادات الحية لضحايا التعذيب والاحتجاز القسري، وإيصال أصواتهم إلى المنابر الحقوقية العالمية، مما سيمكن ويساعد على كسر الصمت.
الفظاعات التي تُرتكب ضد الصحراويين في جنوب الجزائر ليست مجرد تجاوزات عابرة، بل هي جزء من سياسة قمعية ممنهجة تهدف إلى إسكات أي صوت معارض وإبقاء سكان المخيمات في وضعية استغلال دائم. فالمجتمع الدولي، الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان، لا يمكنه الاستمرار في غضّ الطّرف عن هذه الجرائم.
إن معركة كشف الحقيقة وتحقيق العدالة للضّحايا يجب أن تستمرّ عبر جميع الوسائل الممكنة، لأن الصّمت لم يكن يومًا خيارًا أخلاقيًا أمام الجرائم ضد الإنسانية. فالصحراويون الذين يعانون في تندوف يستحقون صوتًا عالميًا يطالب بحقوقهم ويضع حدًّا للمعاناة التي طال أمدها.