عبد الرحيم التوراني: هذيان في منتصف الطريق

عبد الرحيم التوراني: هذيان في منتصف الطريق عبد الرحيم التوراني

الحياة سلعة نادرة. هي كالماس الأسود النادر، باهظٌ ثمنها وغالٍ.. بل أغلى وأكثر..

أغلى من اللؤلؤ ومن الفضة ومن الذهب.. ومن كل الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة..

لذلك، دائما يتم تهريب الحياة لبيعها في البورصات السرية وفي الأسواق السوداء،

وما تراه من "حياة" ما هو إلا نسخ من حيوات كاربونية مزيفة ومزورة..

برامج "استنساخ وتقليد".. تضاهي الحقيقة شكلا ولونا.. ليس غير..

يروجون لاستهلاكها الواسع وينشرونها كالذباب..

أو قل، تخفيفا.. كسراب خادع...

أما الحياة الأصيلة فتباع سرا في بورصات الدم بالعملات الصعبة..

ومن لا يملك غير أنفاسه المتقطعة ونبضات قلبه الواجف، عليه - إن استطاع إلى ذلك سبيلا- أن يتفرج في صمت على عمليات البيع والشراء والرهن والمراهنات.. وعلى مضاربات مافيات لامرئية.. ومشاهدة مسلسلات المزايدات بالدم وبالأرواح وبرسم الخرائط وتلوين المصائر الإنسانية..

 

***

نشاهد من يشتري ونعرف من يبيع،

ومن يرهن ويراهن.. ومن يزايد علينا وبنا وفينا وعلينا...

لكننا نظل نجهل الحياة النادرة.. ومصدرها فينا ومنّا..

في نبضات صدور مثقوبة وأنفاس مرة وعبء أجساد منهكة وعقول مشوشة بأضغاث الأحلام..

ولما نتطلع، نريد المجازفة ونسترخصها، فنقع في حرائق العتمة ولهيبها المفخخ بالوهم وبالمستحيل،

نرهن وجودنا ونقامر بأعمارنا القصيرة... لنحظى ولو بقليل من معدن الحياة النادرة..

نهفو لنتذوق طعمها.. كيف هي مرارته الحلوة، أو حلاوته الممجوجة..

فيكون حظنا أن البائع اسمه "جُداع"،

يأخذ منا جُداع كل الأنفاس ولا يرد لنا الباقي.

ولا نعلم أنه مصاص دماء إلا بعد فوات الأوان،

ومن أسماء جُداع المستعارة: الحمام والمنية والمنون..

وله أقنعة ملونة بألوان الحياة..

 

***

لقد دسوا ألسنتنا في حلق السعير...

فلا نمُوتُ فِيهَا ولا نحْيَى..

وقد درَّبونا على كيف "نتزقَّم" من فاكهة الجحيم..

وننهل من نترات المُهْلِ الأثيم..

 

وإنّا من الزقُّوم لآكلون..

هذا الوعد.. وهكذا الوعيد...

 

وقد فاتنا أن نتعلم اللغة المهجورة..

فتم محونا مع آخر سطر غمام في النهار،

ورضينا بنُسخ من صحاري مقفرة وبسراب أنهار ملوثة، وظلال شجر بساتين مسيجة بالْحُطَمَةِ وبالدخان..

وقد آمنا بالقيامة هي الحياة..

حياتنا الموعودة والمفترضة عند القدير...

 

وهذي لافتاتنا عالية تصرخ.. يا ألله... يا ألله...

نطالب بالقيامة الآن..

الآن.. الآن... وليس غدا...

خذنا إلى الفردوس الصحيح..

وضعنا في اليوم الموعود الصريح..

 

***

كيف بالإمكان تكسير حاجز الصمت...

وأنا أتأرجح بين صعود وهبوط...

أحاول استيعاب ما يجري أمام ناظري..

أحاول أن أفهم ولا أفهم..

كيف أفك شفرة الغموض..

كيف لا تكتمل الحياة إلا بالموت الكامل..

كيف يكون الموت امتدادًا للحياة بالفناء والإفناء..

 

***

الحياة ثمينة، لكنها سريعة فانية كنسمة شاردة،

الحياة رحلة خفية، رحلة تنقصها الحقيقة...

الحقيقة التي لا تُفكّ ألغازها إلا بعزلة تامة تحت تراب خافت وبارد.

 

***

يمر التاريخ والفناء أزلي خالد،

الفناء مصدر للخوف والدهشة..

نمط وجود لا زمني.. ديمومة بلا حدود..

 

لكن يصعب النقاش حول جوهر الخلود كمفهوم خارج سياق الحديث حول الأبدية في سياقها اللاهوتي..

 

هكذا تبقى كلمة "الخلود" لفظا طاعنًا في الإبهار والتجريد والخيال والأحلام والعماء الميتافيزيقي..

كلمة مرادفها الأقرب يفيد الزوال والاندثار والعدم والفناء..

 

***

كم من مليارات الأرواح جاءت وذهبت ولم تعد..

بل يقال إنها الآن تسكن وتقيم في أبديتها المكتملة بالفناء...

لكن لا بد من الحصول على ذلك المعدن النفيس، مهما كلف من تقطيع الأنفاس..

 

***

لا شيء في هذا المفهوم ينكر حقيقة الزمان أو يوحي بأن التجارب الزمنية وهمية..

من الكوميديا ​​الإلهية إلى الخيال العلمي المعاصر.. وصولا إلى عصر الذكاء الاصطناعي..

يستمر الإنسان في محاولات استكشاف آثار الوجود الأبدي في صلته بحياة الإنسان، ولن ينجح إلا بواسطة الآداب والفنون للارتقاء إلى فهم أعمق للحالة الإنسانية.. ومكانة الإنسان في الكون...

***

لا بداية ولا نهاية للأبدية،

هي ألف الأبجدية وياؤها...

أوووه.. كيف لم ننتبه إلى رسم كلمة "الأبجدية" في لغتنا العربية...
قد لا يكون الأمر مجرد مصادفة علامتها حرف جيم...

"الجيم".. الحرف الأول في كلمتي "الجنة" و"الجحيم".. اللذان يرمزان إلى الخلود وإلى الأبدية...

تلك الأبدية الزائلة.. التي لا تكتمل إلا في الفناء...