في يوم التحم فيه فراق الروح بقدسية شهر رمضان، واصطدم فيه الحزن باحتفال العالم بالمرأة، رحلت نعيمة سميح.
لم تغب الفنانة التي حفرت اسمها في ذاكرة الأغنية المغربية فحسب، بل غابت قطعة من صوت الوطن، ومن إيقاع حول الألم إلى نغم، والفرح إلى قصيدة.
غابت في الثامن من مارس 2025، وكأن القدر أراد أن يربط رحيلها بيوم يخلد نضال المرأة، لتظل رمزا للتحدي في فضاء فني كان حكرا على الرجال.
انطلقت من أحياء الدار البيضاء الشعبية، حيث ولدت عام 1954، حاملة صوتا اعتبر معجزة من معجزات الزمن العربي.
في التاسعة، "هربت" من الفصل الدراسي إلى عالم النغم، وفي السادسة عشرة، وقفت أمام عدسة برنامج «مواهب» لتخطف أنظار عبد النبي الجيراري، ملحن جيل رأى في بحة صوتها نبوءة فنية. كانت الأصغر بين رائدات كسرن احتكار الرجل للفن، والأجرأ في تشكيل هوية موسيقية مغربية خالصة، رافضة إغراءات الشرق، ومتمسكة بإيقاع محلي حوله الملحنون الكبار كعبد القادر الراشدي وعبد الوهاب الدكالي إلى أسطوانات ذهبية.
من «جاري يا جاري» التي حولت الشوق إلى نشيد وطني، إلى «ياك آجرحي» التي جعلت الألم فلسفة تغنى، وصولا إلى «واقف على بابك» التي أبدعتها برفقة الخليجي يوسف مهنا، صاغت نعيمة سميح عالما يمتزج فيه الديني بالعاطفي، والوطني باليومي.
كانت تغني رحمها الله، بلسان الشعب، فتحوّل صداها إلى جسر بين المغرب والعالم العربي، حتى في أغانيها التي نسجت بلهجات غريبة عنها، كالأغنية الخليجية التي أدّتها بإتقان أدهش النقاد.
لم تكن رحلتها سهلة، فالمرض ظل ظلها لعقود، والاعتزال اختيارا إجباريا أحيانا، لكن الجمهور ظل وفيا ينتظر عودتها كما ينتظر المطر.
حين كرّمها الملك محمد السادس بوسام الكفاءة الوطنية عام 2007، أو حين وقفت على مسرح الأوليمبيا الباريسي عام 1977 ، لتصبح ثالث فنانة عربية بعد أم كلثوم وفيروز ،كانت تدرك أن التتويج ليس مجرد لحظة، بل اعتراف بأن الفن المغربي قادر على احتضان العالم.
عندما نعتها الفنانة حياة الإدريسي قائلة «أختي نعيمة في ذمة الله»، انهمرت التعليقات كقطرات المطر على مواقع التواصل الاجتماعي من الفنانين والإعلاميبن وعموم المواطنين الذين أحبوا أيقونة الطرب والتي لم تكن مجرد صوت، بل مدرسة في الإحساس والطيبة .
حتى في تونس، حيث تم تكريمها من طرف سفارة المملكة المغربية بتونس بمبادرة وإشراف مباشر من السفير ذ حسن طارق، وتم إصدار كتاب بعنوان «نعيمة سميح أثرا تونسيا»، بقي صوتها حيا في ذاكرة الجمهور هناك، ورأى في «ياك آجرحي» نشيدا مشتركا.
اليوم، بينما يردد المغاربة والعرب «غاب علي الهلال» في ليالي رمضان، سيتذكرون أن الهلال غاب عنها في الشهر ذاته. لكن نعيمة سميح التي حولت جرحها إلى أغنية، ستظل ترافقهم من خلال «نحمدو ربي ونشكروه»، و«على غفلة»، وكل نغمة علمتهم أن الفن الحقيقي لا يموت.
حظيت الراحلة نعيمة سميح بتقدير خاص من طرف الملك محمد السادس، كما هو الشأن بالنسبة لوالده الملك الحسن الثاني، وقد قام عاهل البلاد باستقبالها بمناسبة الذكرى السابعة لعيد العرش ، حيث قام بتوشيح عدة شخصيات بأوسمة ملكية، كان ضمنها أربعة فنانين مغاربة، وفي مقدمتهم الفنانة القديرة نعيمة سميح.
مسار الفنانة والإنسانة نعيمة سميح، رحمها الله، مسار مطرز بالنجاحات والقبول من طرف الجمهور المغربي والمغاربي وأيضا العربي، معادلة صعبة لايمكن حلها إلا ممن كان يتمتع بذكاء فني وقلب ينبض محبة ويحترم المتلقي المفترض والمتعدد بتعدد خلفياته وفئاته.
هذه المعادلة، أجابت عنها نعيمة سميح ذات حوار بالتأكيد على أن مرد ذلك هو «الأحاسيس الصادقة التي تسكن شراييني وتتفاعل مع الأغنية التي أؤديها بصدق وانسجام إلى درجة الذوبان في الأداء ،وهذا ينعكس على حركاتي وتقاسيم وجهي حين أغني، إنها التلقائية التي تجرفني للانفعال مع أغنياتي».
رغم كل الأوسمة المستحقة التي نالتها، يبقى أرقى وسام وشحت به، هو وسام التقدير والحب الجارف ،الذي كلل الجمهور صدرها به ،خاصة وأنها تعاملت مع مدارس متعددة ،لكن الفرق بينها وبين الآخر، أنها استطاعت أن تشكل من ذلك مدرسة خاصة بها ،فقد تعاملت مع العديد من الملحنين الكبار، إذ نجد محمد بن عبدالسلام في «نوارة «فتح الورد «لله عليها قصارة «البحارة»، وفي «الخاتم» مع عبدالرحيم السقاط، «جريت وجاريت» رفقة عبدالقادر وهبي ومع محمود الإدريسي في أغنية «شكون اللي يعمر هاد الدار».
ومع عبد القادر الراشدي في «هذا حالي» غاب عليا لهلال» جاري «على غفلة» وفي «قطيب الخيزران» مع عبد لله العصامي، و«أمري لله»رفقة أحمد العلوي و«رحلة النصر «مع عبدالوهاب الدكالي وغيرها من الأعمال الفنية الخالدة.
حتى وهي تغني بغير لسانها الدارج المغربي، نجد أنها تتقن اللهجة المستعملة، وتغني بإحساس كبير، إلى درجة أنها أدهشت الآخر، كما حدث مع الأغنية الخليجية «واقف على بابكم «التي تغنى بها العديد من الفنانين الكبار من كل الأقطار، وحتى الجيل الجديد من الشباب الآن.
المطربة القديرة نعيمة سميح صاحبة البحة الفطرية،نجحت ودخلت قلوب الناس بدون استئذان، لأنها تخلصت منذ دهشة البدايات، وهي تلج هذا العالم، من فخاخ التكبر والاستعلاء، الذي يصعب على الكثيرين التخلص منه،ببساطة لأنه مليء بالأضواء الحارقة، والذي لم يكتب لغيرها، وهم قليلون، أن ينجوا من فكاكه.
نعيمة سميح، صوت آسر، يغريك بالطرب مهما كانت مقاومتك ومناعتك، فلن تغنيك ولن تمنعك أي منهما في شىء، من الإنصات بالقلب والجوارح قبل الأذن.
نعيمة سميح، صوت نادر وحنجرة من ذهب، تلخصه باختصار الحروف المشكلة له، فالصاد ،صمود أمام كل تفاهة وهجانة، والواو، وقار له وقع ونقر في المزاج والإحساس، والتاء، تخطيط للروح والنفس وترجمة بكل ألوان قوس قزح لمعنى الفن الراقي ولمعنى الحياة.
اليوم ورقة أخرى تسقط من شجرة الفن الأصيل، صحيح رحل الجسد، لكنها تركت وراءها شجنا لا يغادر القلوب.. شجنا اسمه نعيمة سميح.