إدريس الأندلسي: بين السردين والسياسات.. علاقة غير سرية

إدريس الأندلسي: بين السردين والسياسات.. علاقة غير سرية إدريس الأندلسي
تكاثرت التعاليق حول حادثة إقفال متجر بيع الأسماك المراكشي ثم إعادة فتحه بعد تدخل والي مراكش. ذهب بعض كبار التجار والمضاربين إلى اعتبار هذه الحادثة مجرد ضجة مصطنعة. ساند هذا الرأي أحد أصحاب المواقع المعروف بالسباحة ضد التيار ولو كان منبعًا للخير، واعتبر أن التاجر الشاب سخر "جيوش السردين" للإشهار والتشهير وتحقيق أرباح كثيرة. ولكن ما لم يكن في الحسبان هو المتابعة الجماهيرية التي حظي بها بائع السردين بخمسة دراهم. وكان من آثار هذه المتابعة ظهور تيار كبير من ذوي الدخل المحدود الذين تكلموا بكثير من الوعي والحدة عن مذبحة قدرتهم الشرائية. وهكذا كانت خرجة هذا البائع المثقل بهم زبائنه أكبر بكثير من التظاهرات والبلاغات النقابية والسياسية حول اشتعال الأسعار منذ ما يزيد على سنة ونصف. وصل "الصهد" إلى الحكومة والأحزاب. تحدث عن هذا البائع وقضيته الناطق الرسمي باسم الحكومة دون إقناع، ويعني هذا التداول أن الموضوع فرض نفسه ولو على هامش جدول أعمال مجلس الحكومة.

سجلت الساحة السياسية خلال الأسبوع الفارط خرجات حزب الاستقلال في شخص أمينه العام والعضو بالحكومة نزار بركة وعضو اللجنة التنفيذية للحزب رياض مزور، للكلام عن غلاء الأسعار وعن دور الوسطاء والسماسرة في الهيمنة على الهوامش الربحية الكبرى واغتنائهم على حساب المنتج الحقيقي والمستهلك ذي الدخل المحدود. واعتبر الكثير من المتتبعين هذه الخرجات استمرارًا لشرخ بدأ فعله في الأغلبية الحكومية وسيستمر إلى ما بعد الانتخابات المقبلة. ولم يترك أي حزب فرصة حل مشكلة تاجر السردين دون "الإدلاء بدلوه" في الموضوع. اعتبر بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، والذي تابع فصول قضية الشاب المراكشي، أن "هذا هو توجه الحكومة"، وأكد على استمرارية أعمال اللجان في مجال المراقبة، لكنه لم يوضح موقفه من قضية الأسعار. وساند رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني موقف وعمل تاجر السردين وثمن آثار عمله، حيث قام "بما عجز عنه الكثيرون، وتمكن من تحريك المياه الراكدة".
 
لقد استفحلت المصائب التي يتسبب فيها الوسطاء والمضاربون، وأكبر هذه المصائب هي الهجوم على جيوب المواطنين في غياب عمل رقابي مهيكل ودائم، وليس على شكل حملات تتسم بالبهرجة الإعلامية. تتحمل ميزانية الدولة، التي يمولها الفقير وذو الدخل المتوسط بالأساس، كل أنواع دعم كبار المنتجين وكبار المستوردين، ومن لا قدرة للحكومة على إحداث رجة لتحديد هوامش أرباحهم غير المشروعة وإنصاف الفلاح المنتج ومربي الماشية وصانع المنتجات الغذائية. تصرف المليارات للاستهلاكيات الكبرى كمنح لتكثيف الإنتاج والاستجابة للطلب الداخلي أولًا، وتصل المنتجات الفلاحية للأسواق الخارجية بأسعار أقل مما يدفعه المستهلك المغربي. تنهك مياهنا الجوفية وتتضرر أراضينا وجيوبنا. يكثر الحديث الحكومي المشروخ عن تقديم المزيد لتتناقص أسعار اللحوم، فتكون النتيجة عكس شعارات الحكومة، وتصل الضربة المؤذية للمواطن.
 
تعتبر مبادرة الشاب المراكشي، بائع السردين، ناقوس خطر لكي ينتبه السياسيون المزهوون بحجم أغلبيتهم الحكومية. عليهم قراءة كتب التاريخ، وخصوصًا ما جاء به المؤرخ الناصري في كتاب "الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى". أغلب الفترات التاريخية التي فقدت خلالها السلطات المركزية سيطرتها على المدن والقرى كانت فترات غلاء وعدم قدرة الناس على تغطية حاجاتهم. ونعيش اليوم في ظل ارتفاع مهول مس اللحوم والأسماك والخضر والفواكه وكافة المواد الغذائية وكذلك المواد الطاقية.
 
وقد انفرجت أسارير الكثير من المغاربة بالقرار الملكي الذي أهاب بالشعب "العزيز إلى عدم القيام بشعيرة أضحية العيد" وذلك رفعًا "للحرج والضرر وإقامة التيسير". وقد بين هذا القرار أن فئات كبيرة من ذوي الدخل المحدود كان سيلحقها ضرر أكيد. وأصبح الآن، في ظل تفاعلات كثير من المغاربة مع لهيب الأسعار، أن الأولوية الكبرى هي القوة الشرائية. وأصبح من غير الممكن أن يستمر تغييب المحاسبة والتقييم عن السياسات العمومية التي لم تحقق أهدافها رغم صرف الملايير من الدراهم عليها. وتوجد السياسة الفلاحية باسميها "المغرب الأخضر" و"الجيل الأخضر" في محطة تفرض التقييم والمحاسبة انسجامًا مع مبادئ الدستور المغربي. سهولنا وجبالنا واستثماراتنا وبحارنا رأسمال كبير ومليء بالثروات. أين هي ولماذا لا تخفف المعاناة عن ذوي الدخل المحدود الذي يريد كيلوغرام سردين بخمسة دراهم، ولحومًا لا يتجاوز سعرها ثمانين درهمًا، وخضرًا تضمن ربحًا للفلاح ولا يسيطر عليها السمسار، ومواد طاقية لا يغتني منها من لا يكررون النفط ويحبون كثيرًا استيراده وبيعه والاستحواذ على أكبر الأرباح دون مخاطرة ولا استثمارات كافية لضمان مخزون استراتيجي؟ من سردينة إلى سياسة عمومية تضيق المسافات بفعل جموح طبقة تغتني ولا تنتج إلا الأزمات.