حميد الكفائي: سياسات ترامب مدمّرة لأميركا قبل أوروبا!

حميد الكفائي: سياسات ترامب مدمّرة لأميركا قبل أوروبا! حميد الكفائي
لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحلم بما وصلت إليه مغامرته الأوكرانية، وكيف أن خصومه بدأوا يتبادلون التهم، وصار بعضهم يتهم أوكرانيا بأنها بدأت الحرب، وأن زيلينسكي، المنتخب بنسبة 73%، وليس بوتين، "ديكتاتور"! 

أميركا، التي رفعت لواء مساندة أوكرانيا "الديموقراطية" لصد العدوان الروسي، تخلت فجأة عن تلك البطولة، وهرعت للتفاوض مع روسيا دون شروط. أما أوروبا، التي يتهددها الخطر الروسي، فبدت عاجزة عن المواجهة، وسارع قادتها إلى واشنطن لاستجداء العطف. 
 
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي يزور واشنطن هذا الأسبوع، اعتبر مسبقاً بأن أميركا "على حق" في المطالبة بأن تدفع أوروبا تكلفة الدفاع عن نفسها، وليس صحيحاً أن تبقى معتمدة على الحماية الأميركية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي سبقه إلى حجّ واشنطن، حاول أن يقنع دونالد ترامب بضرورة بقاء التحالف الغربي متماسكاً ومسانداً لأوكرانيا. الرئيس البولندي أندريه دودا، سبق الاثنين إلى العاصمة الأميركية، عارضاً مأزق بلاده، وهي الأكثر قلقاً من روسيا. 
 
أسباب الهلع الأوروبي لا تتعلق بعدم القدرة، بل بعدم الاستعداد، رغم أن الخطر لم يكن مفاجئاً، بل يلوح في الأفق منذ ولاية ترامب الأولى. لدى أوروبا إمكانيات عسكرية واقتصادية هائلة، ويمكنها الدفاع عن نفسها. الاعتماد على أميركا طوال 80 عاماً كان خطأً استراتيجياً. فإن كان لدى أميركا 1.1 مليون جندي، فإن لدى دول أوروبا مليوني جندي في الخدمة الفعلية، إضافة إلى ملايين الجنود الاحتياط. 
 
أوكرانيا، هي الأخرى، برهنت على قدرة فائقة في الدفاع عن نفسها، لكنها تحتاج إلى السلاح. عديد جيشها (2.2 مليون)، يفوق نظيره الأميركي، وقد أوقف التقدم الروسي ببسالة نادرة.

وإن كان لأميركا سلاح نووي، فإن أوروبا تمتلكه أيضاً. بريطانيا وفرنسا تمتلكان 515 رأساً نووياً. كذلك فإن الرؤوس النووية الأميركية موزعة في أوروبا، بين ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا وتركيا، لذلك لا تستطيع عملياً أن تتخلى عن أوروبا إلا عندما تتخلى عن قواعدها العسكرية. 
 
وإن كانت أميركا متقدمة صناعياً، فإن أوروبا هي مهد الثورة الصناعية، والصناعات الأوروبية متطورة، بما في ذلك الصناعات العسكرية. فدبابات "ليوبارد" الألمانية، ودبابات "تشالنجر" البريطانية، ودبابات "ليكليرك" الفرنسية من أقوى الدبابات في العالم، وهي تضاهي دبابات "أبراهامز" الأميركية. 
 
طائرات "يوروفايتر تايفون" الأوروبية، وكذلك طائرات "تمبست" البريطانية، من أكثر الطائرات المقاتلة تفوقاً، وهي بالتأكيد تتفوق على الطائرات الروسية. وحتى طائرات لوكهيد مارتن المتطورة، التي تصنِّعها أميركا، تُصنَّع أيضاً في بريطانيا وإيطاليا وكندا. 

وإن كان لأميركا مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، فإن لأوروبا مقعدين دائمين، البريطاني والفرنسي، وإن تخلت أميركا عن تحالفاتها الأوروبية، فإنها ستخسر صوتي بريطانيا وفرنسا، وبذلك تتمكن أوروبا من تحرير العالم من الهيمنة الأميركية على القرارات الدولية، والتي تحرِج أوروبا في أحيانٍ كثيرة، خصوصاً القرارات الصارخة في انحيازها، وما أكثرها. 
 
أما القوة الاقتصادية الأوروبية فلا يستهان بها، فالناتج الإجمالي للاتحاد الأوروبي، وفق حسابات القدرة الشرائية، يتجاوز 29 تريليون دولار، ليس بعيداً عن نظيره الأميركي، الذي يبلغ 30 تريليون دولار. وإذا ما أضيف إليه الناتج البريطاني، البالغ 5 تريليونات دولار، فإن الاقتصاد الأوروبي سيتجاوز الاقتصاد الأميركي بـ 4 تريليونات دولار.
 
التحرر من الهيمنة الأميركية في مصلحة أوروبا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأخلاقياً، لأن هذه الهيمنة مضرة بها ومحرِجة لها، وخصوصاً أن أميركا منحازة في قراراتها، وغير منسجمة مع مواثيق حقوق الإنسان العالمية، وتعارض قرارات المحاكم الدولية، بل تتحدى شرعية المحكمة الجنائية الدولية. وهي مقيِّدة لأوروبا اقتصادياً، فأميركا عادة ما تشترط على حلفائها التقيد بقراراتها وعقوباتها على الدول الأخرى المهمة لأوروبا، كالصين. 

إجراءات ترامب الحالية، الموجهة بمجملها ضد حلفاء أميركا، في قارتي أوروبا وأميركا، ستدفع أوروبا لمراجعة حساباتها السياسية، وتحالفاتها الاستراتيجية، وتعاملاتها الاقتصادية، وهذه المراجعة ستقود إلى تحريرها من القيود الأميركية، وتمكِّنها من اتخاذ قراراتها السياسية والاقتصادية باستقلالية، الأمر الذي سيعود عليها بالنفع ويدفع دولاً عديدة إلى التعاون معها.
 
 كذلك فإن امتلاك أوروبا لعملة عالمية مستقرة وناجحة كاليورو، سيجعل منها وجهة اقتصادية موثوقة للكثير من الدول التي لا تثق بأميركا، وهي كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.

ما تحتاجه أوروبا الآن هو التماسك والتنسيق الوثيق بين دولها والابتعاد عن الحزازيات القومية والوطنية، واعتبار شعوبها المختلفة شعباً واحداً، ذا مصير ومصالح مشتركة. 

سياسات ترامب التي استهدفت دول التحالف الغربي قبل غيرها، يجب أن تكون جرس إنذار لأوروبا، كي تتبع سياسات مستقلة تخدم مصلحتها. إن بقيت متفرقة، فستبقى ضعيفة أمام روسيا، أو أي قوة عالمية أخرى صاعدة. لا بد لها من أن تساند أوكرانيا، فإن خذلتها الآن، فإن الخطر الروسي لن يتوقف عند حدود أوكرانيا.
 
المصدر: النهار العربي