سينما وفنون بصرية: ضد المعرفة العامية أولا

سينما وفنون بصرية: ضد المعرفة العامية أولا

إذا كان الفن إبداعا فالإبداع تجديد، وإذا كان التجديد هو الإتيان بما ليس مألوفا، فلا يمكن الحديث عن إبداع دون خروج عن المألوف فهل كل خروج عن المألوف إبداع؟ في حالة الإيجاب سيكون أي ‘’هذيانٍ’’ ‘’أفضلَ إبداعِ’’؟ فهل هذا معقول، أما عن كونه مقبول فهذا زمنه.

لنُعقلن:

يعتبر الكثير من الفلاسفة ومنظري الجماليات والنقد (على الخصوص المؤسسان «الكلاسيكيان» لأدق وأعمق المفاهيم حول العمل الفني وخصائصه الألمانيان إيمانويل كانط وجورج هيغل …) وذلك باعتبار الجمالي والنقدي أقصى الفاعليات الفكرية التي تمنح الفن قواعده ومعانيه العميقة، والتي بها وعن طريقها، وحدها، يمكن تجاوز الميركنتيلي والنفعي والانتهازي، كما يمكن تجنب تقويم أكثر أشكال التعسف والتطويع والتسليع مكرا وحذلقة.

من جهة أخرى يعتبر الفن قمة الإنتاج الثقافي الفكري والمعرفي الإنساني ورأسه: فإذا كانت المعرفة العامية هي حصيلة تجربة تكررت مكتسية طابع الأزمة (أزمة النمو حسب التحليل النفسي) المتكررة لأجيال وعصور، فإن العلم (وبعد مخاض طويل وموجع وغالي الثمن من التطور وارتياد غياهب المجهول مسبوقا بالفلسفة المستكشفة الطبيعية والمألوفة لهذه الآفاق) معرفة تتراكم بسرعة لتوفرها على مباديء عقلانية وأسس منهجية إجرائية وتقنيات وأدوات مُلائمة وتخصص يمكِّنُ من عزل الظواهر وتقسيم الواقع إلى أبعاد ومستويات من أجل سيطرة أسرع وأعمق وأنفع للإنسانية. وباستعارة كانط مرة أخرى فالمعرفة العامية ( التي تجعل من أغلب الهذيان إبداعا، ومن أحكام القيمة غير المسنودة نقدا، ومن النرجسيات المَرَضِيّة رأيا….) هي ‘’المعرفة الحسية’’ (مقابلها القيمة المبتذلة) السائدة وهي ما أوصى ابن رشد وقبله كثير من المفكرين والفلاسفة بحجبها عن العامة درءا لخلط الحابل بالنابل وتجنبا لفوضى الميوعة والتمييع. إنها المعرفة التي لا تستند لوحدة التحليل، ولا تتقعد على وحدة المباديء المنهجية، لأنها خُلُوٌّ من مناعة المفاهيم الإجرائية، وفقيرة من حماية القيم الجمالية المتجلية في وحدة الرؤية وانسجام العمل الفني من جهة، ومن تسلسل وسلاسة نسيج هذا الإبداع وتلاحم مفاصل إيقاعه، وحدسية توغله في الواقع من خلال سريرة صانعه ‘’الحامل’’ لنبض هذا الواقع بعين ترى ما يُرى وأذن تسمع ما يُسمع في المبتذل المألوف اللذان لا تسترجعهما ولا تستنسخهما لأنها لا تخضع لسلطتهما. ولك عزيزي القاريء أن تقيس على ذلك أن ‘’المعرفة العقلية’’ أو الفهم (مقابلها القيمة النفعية الخارجية) وهي التي تنتج العلم لصرامة أسسها ونظامها المفاهيمي وضمانات طرائقها في الطرح والتحليل والاستنتاج والتمحيص قبل الحُكم الموضوعي الذي يغدو، عندها قانونا علميا، من تراكماته قد تستنبط النظريات المعمارية الكبرى.

ما لنا ولكل هذا الكلام الثقيل؟

أشير هنا برابط ‘’فني’’ إلى أن الكندي والفارابي وابن خلدون، وبالطبع ابن رشد، قد صنفوا الموسيقى ضمن الجماليات الفلسفية إلى جانب الرياضيات والميتافيزيقا باعتبارها تأمل الجمال في معمارية الكون.

سئل موزارت يوما، وهو مبدع أكثر الفنون روحانية وعمقا في مخاطبة الجوارح والمشاعر والذوق والتوازن النفسي للإنسان (والأهم أن الموسيقى أعمق الفنون تعبيرا عن عمق الوجود ورهبة شساعة الكون وعظمة الكون في تعدده وتنوعه وخلقه وخالقه….الموسيقى أقول ….الموسيقى)، عن علاقته بالعلم وبالمعارف الفلسفية الكبرى ببلده حيث تنَفَّسَ فلاسفة وعلماء وموسيقيون (غوته وكانط وفاغنر وهيجل وبيتهوفن وشيلر وفيخته…) فقال بأنه لم يترك نظرية ولا مفهوما إلا وأعاد قراءته مرارا ولليل طوال، وبأن لولا تلك القراءات لما أبدع ما أبدعه من مقطوعات خالدة.

لنكمل عن النمط الثالث من المعرفة: إنها ‘’المعرفة الحدسية’’ التي أسميها في حقل الإبداع والنقد الفني للفنون البصرية عموما، والسينما والفوتوغرافيا والتشكيل خصوصا بالمعرفة البصرية القائمة على التفكير البصري، (مقابلها القيمة الداخلية المطلقة) فما مصدر هذه المعرفة وما خصائصها؟

تنبع المعرفة الحدسية من السريرة، وهي البؤرة التي "تختر" فيها كل التجارب الجسدية والإنفعالية الوجدانية والعقلية المعرفية الإنسانية في الفرد منذ طفولته. (لا مجال هنا للاعتداد بالعنعنات الاستظهارية، ولا بالأنانيات التبريرية، ولا بالسطحي من التاريخ الفردي في التنقل أو المصاحبة أو الصور التذكارية، أو حتى دخول هذا القصر أو ذاك أو زيارة هذه المَعْلَمة أو تلك، أو مصافحة هذه السلطة أو تلك لأن الكثير من المتكلسين والعاقرين جابوا أطراف الدنيا ودخلوا أفخم المحلات وحضروا أكثر المناسبات بذخًا وبأوراقِ اعتمادٍ) المُبْدِعُ هو من ‘’يقول’’ غير المألوف لكن في صيغة مبتكرة في روحها تأسر بنسقيتها وتهز سرائر أخرى قادرة على ‘’قراءة’’ المُسْتَتر جمالا بين ثنايا ما يحمل جمالا في معماريته المتناغمة التي تعيد صياغة عالم المألوف والمعتاد (أليس الحب والمأساة والغدر والموت، والألم والجبن والخوف والثقة والغرور والخطأ واللذة، والشطط والعدل والسلطة والظلم، والرغبة والحرمان والوضاعة والنهد والردف والهوى والحلم، والعيون الواسعة والشعر الفاحم السواد، والكتفان العريضان ورائحة العرق، والدموع المنهمرة من العينانِ الساذجتَا النظرةِ …. صورٌ مألوفة ومتكررة قدر تكرار عددَ ذرَّاتِ الغُبار في مرورنا اللاَّهث بدُروب حياةٍ تتسرب من بين أصابع يدينا ونحن ننظر إليها بيقينية قاتلة؟) بذاتية (وليس نرجسية بالضرورة) خلاقة لا تركب سريرتها إلا من خلال توطيف ‘’خيمياء’’ (التركيبة الفريدة التي لا نظير لها ومن ثمة تميز الفنان رغم تكرار الموضوع فليس هناك موضوع لم يطرق ولم يشكل موضوع تحليل وتفسير وتأويل وتفكير إنساني إلا بقدر تغير المعطيات والأدوات وتجدد الأبعاد والمستويات) تصهر في تفرد الحسي والعقلي والوجداني لتنتج الحدسي البصري المتميز والمتفرد.

إن السينمائي من هذا المنظور منسق عام في سريرته أولا لأشمال تعبير ولحقول صناعة ولأدوات إلتقاط، يركب الكل في الذهن ثم في ‘’الكتابة’’ السينمائية لينتج ‘’فيلما تخييليا’’، كما على الناقد انتاج تماهٍ متفرد ومختلف عنه وإلى جانبه بمسافة إبداعية أيضا، بعيدا عن العنعنات والمرجعيات الغليظة أو الهذيان (يستطيع المسرحي نبيل لحلو مثلا أن يُسْكِت، وذلك ما حدث مرارا، أكثر المُتخصصين في الأمر، بينما لا يستطيع نهائيا تجاوز حدوده في مواجهة مفاهيم نقد مُؤسس) فذلك ما بإمكان أي طالب طري الذاكرة تقديم أكثرها فتنة، دون قدرة على مُلائمتها في تحليلٍ متكاملٍ يكشفُ سِرَّ العمل الإبداعي بل السقوط في أكثر أصناف التعسف العرفي والإسقاط الإنفعالي بؤسا.

لأقول اختتاما، وليس ختما، لما أنا في بدايته من تأسيس لعامود رأي أريده واضح الرؤية ما أمكن، وناصع الأدوات المفاهيمية قدر المستطاع، وذلك درءا للتنازل للرداءة ورفضا للاستسهال وللبتر والفصل بين الإبداع بحقوله وللمعرفة التركيبية الرصينة وتعددها، لأقول بأنني سأتناول هنا عينات من الأعمال الفنية الوطنية أساسا دون تمييز أو محاباة متى أثارت تواطؤي، كما سأعمل بالتأطيد على تناول الحقل الإعلامي والبصري بانتظام في قضاياه الكبرى من باب واجب المثقف والناقد ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكله رأي وليس أكثر أبدا