الاستدامة ككلمةٍ وليس كمفهوم، أصبحت شائعةَ الانتشار. لقد أصبحت على طرف الكثير من الألسِنة المثقَّفة وغير المثقفة. نجدها في نشرات الأخبار، في الصُّحف، في مواقع التواصل الاجتماعي، في الخُطب السياسية وغير السياسية، في التَّصريحات الحكومية، في النقاشات البرلمانية… فأينما وجَّهتَ بصرك وسَمعَك إلا وقرأتها أو سمعتها. وكأنها أصبحت "موضة" une mode، تفرض نفسَها على الجميع.
لكن ما لا يجب إغفالُه، وأنا واثِقٌ مما أقول، هو أن جلَّ مستعملي هذه الكلمة لا يعرفون ما المقصود منها ك"مفهوم" concept وما هي الظروف التي ظهر فيها هذا المفهوم.
إن أول علامةٍ قادت إلى تبنِّي "الاستدامة" la durabilité، كمفهوم، هي ملاحظة عددٍ كبير من العلماء، بصفة عامة، وعلماء البيئة les écologues أو les environnementalistes، أن نمطَ التنمية le modèle de développement الذي سار ويسير عليه الإنسانُ، مُضرٌّ للبيئة. والمقصود بالبيئة، هو مجموع البيئة الطبيعية environnement naturel أو الطبيعة la nature والبيئة المُشيَّدة من طَرَف الإنسان environnement construit par l'homme.
وهذا يعني أن نمطَ التنمية الذي اختاره الإنسانُ ليعمِّرَ الأرضَ يسيء للبيئة بشقَّيها الطبيعي والمشيَّد. وأكبر عدوٍّ للبيئة هو التلوُّث بجميع أشكاله. وأخطر التلوُّثات هو الذي تسبَّب في تغيير المناخ le changement climatique.
وهذا يعني أن نمطَ التنمية الحالي يجب أن يتغير لأنه مُدمِّرٌ للبيئة ويهدِّد استمرارَ الحياة، بجميع أشكالِها، على وجه الأرض، بما فيها حياة الإنسان. إذن، نمط التنمية الذي سيحلُّ محلَّ النمط المُدمِّر للبيئة يجب أن يُحافظَ على البيئة بشقَّيها الطبيعي والمشيَّد، أي أن نمطَ التنمية الجديد يجب أن يضمنَ بيئةً سليمةً، ليس فقط للأجيال الحاضرة، بل، كذلك، للأجيال المُقبِلة. كيف سيتِمُّ ذلك؟
الأبحاث والدراسات قادت علماءَ البيئة، على الخصوص، لابتكار مفهوم "التنمية المستدامة" le développement durable. وهذا المفهوم يقضي بأن نمطَ التنمية الجديد يجب أن يتعاملَ مع البيئة بكيفية تضمن حاجيات besoins الأجيال الحاضرة les générations présentes، وفي نفس الوقت، تضمن، كذلك، حاجات الأجيال المُقبلة.
وهنا، لا بد من توضيحٍ يُعتَبر من الأهمِّية بمكان. ومن خلال هذا التَّوضيح، يجب أن لا يَعتقدَ الناسُ أن الانتقالَ من نمط التنمية المُدمِّر إلى نمط التنمية المستدامة، أمرٌ سهل. لا أبدا! ليس هذا الأمرُ سهلاً. لماذا؟
لأنه ليس من السهل تغييرُ العقليات بين عشيةٍ وضحاها، وخصوصا، عندما يرتبط التَّغييرُ بإلحاق أضرارٍ بالمصالح الاقتصادية للبلدان المصنَّعة les pays industrialisés. والدليل على ذلك، أن مفهومَ "التنمية المُستدامة" ظهر في أواخر الثمانينيات، وبالضبط، سنة 1987، حين تأسَّست لجنةٌ عالمية تحت إشراف الأمم المتَّحدة وبرآسة، آنذاك، الوزيرة الأولى النرويجية السابقة السيدة Bruntland. وهذه اللجنة أصدرت تقريراً صدر في نفس السنة، باللغة الإنجليزية، تحت عنوان "Our common future" مستقبلُنا المشترك. والتقرير مخصَّصٌ كله لمفهوم "التنمية المُستدامة".
مرت على ابتكار هذا المفهوم ما يُناهز 37 سنة ولا يزال محتشِماً من حيث تطبيقه على أرض الواقع. لأنه يصطدم، دائما وإلى يومنا هذا، بانتظامٍ مع أنانية البلدان المصنَّعة، وعلى رأسها الصين والولايات المتَّحدة. كل بلدان العالم، بما فيها البلدان المُصنَّعة والبلدان السائرة في طريق النمو les pays en développement والبلدان الصاعدة les pays émergents والبلدان المتخلفة les pays sous-développés، متفقةٌ على ضرورة تبنِّي التنمية المستدامة، لكنها عندما تلتقي في المحافل الدولية، تجد صعوبةً كبيرةً في تنزيل هذا المفهوم على أرض الواقع.
والدليل على ذلك أن أكبر المحافل الدولية التي تجمع آلاف الأشخاص من مسئولين كبار وسياسيين وعلماء ومثقَّفين وباحثين ومنظمات غير حكومية… لم يستطيعوا النَّقل التام لمفهوم "التنمية المستدامة"، من فكرةٍ نظرية إلى شيءٍ ملموس على أرض الواقع.
وأعني بأكبر المحافل الدولية مؤتمرات الأطراف COP حول تغيير المناخ، التي تنعقد سنويا، في إحدى بلدان العالم، منذ سنة 1995 بألمانيا، ومن ضمنها المغرب سنة 2022 من 7 إلى 18 نوفمبر، بمراكش. وآخر مؤتمر انعقد بأزربيجان سنة 2024. وهو المؤتمر التاسع والعشرون.
ورغم ذلك، "تغيير المناخ" الذي هو في أمس الحاجة ل"التنمية المستدامة"، لايزال قائماً ومُقلِقا ويُلحِق أضراراً كبيرةً باقتصادات البلدان، المُترتِّبة عن الجفاف الذي أصبح بنيوِياً structurel، ومن ضمنها المغرب.