ساهم الأستاذ جلال مزيوني بصفته مهتما بالتراث الشعبي المغربي، بورقة ترتبط بسؤال “احتقار” الحكومة موروث المغاربة الغنائي الشعبي” الصادر في العدد الجديد من أسبوعية “الوطن الآن” حيث يسجل العديد من المثقفين المغاربة، أن الدولة ليست لها إرادة لرد الاعتبار لموروثنا الثقافي والغناء الشعبي بمختلف أنماطه وروافده وتعبيراته، والدليل أنه إلى حدود اليوم لم يتم تفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كمؤسسة دستورية.
الأغرب من ذلك يتم التسويق للموروث التراثي الموسيقي والغنائي بشكل مبتذل بعد إفراغه من محتواه ومضمونه الجميل، في الوقت الذي كان لزاما على الدولة أن تعتبر هذا الموروث التراثي الشعبي من أولويات أجنداتها الوطنية على مستوى الحماية والتثمين والتحصين.
فهل هناك ما يبرر تقاعس الدولة المغربية التي ترفض إلى حدود اليوم، رد الاعتبار للموروث الشعبي والثقافي والغنائي والفني العريق سواء تعلق الأمر بالأغنية الشعبية الأصيلة، أو تعلق بفن العيطة المغربية؟
وكيف سمحت مؤسساتنا الوطنية ذات الصلة بترويج خطاب منحط يسفه ويبخس تراث فن العيطة خاصة والغناء الشعبي عامة؟ ومن هي الجهة التي تستفيد من تعميم صورة مبتذلة عن شخصية "الشِّيخَةْ" وتوجيه سهام النقد الهدام لها وإلصاق مختلف الصفات والنعوت والكلام الساقط المقرون بالفساد والعهر؟.
ـ إليكم جواب الأستاذ جلال مزيوني
تتراقص على أوتار الزمن نغماتٌ عتيقة، وتتعالى صرخاتُ روحٍ مغربيةٍ أصيلة، تنبعث من أعماق التاريخ لتروي حكايا أمةٍ عظيمة. إنها العيطة، ذلك السّفر المُغنَّى الذي نُقشت على صفحاته آهاتُ الشعب وأفراحه، وتجلَّت فيه بطولاتُ المقاومين وتضحياتهم.
من سهول دكالة إلى هضاب الشاوية، ومن ربوع الحوز إلى سفوح الأطلس، تنساب ألحان العيطة كينبوعٍ صافٍ يروي ظمأ الذاكرة الجماعية. ففي كل نغمةٍ حكاية، وفي كل مقطعٍ تاريخ، وفي كل صرخةٍ ثورةٌ على الظلم والاستبداد. هي ليست مجرد أنغامٍ تُعزف، بل صوتُ أمةٍ تأبى أن تُمحى هويتها أو ينسى تاريخها العريق.
على قِدمه، يتناقل الشيوخُ والشيخات، كحراسٍ أمناء، هذا الإرث من جيلٍ إلى آخر، يحفظون أسراره ويصونون جوهره، لكنَّ رياح التغيير العاتية تهبُّ اليوم على هذا الكنز الثمين، وتكاد تطفئ شعلته المتوهجة. فبين إهمالٍ رسميٍّ يُثقل كاهله، وتشويهٍ إعلاميٍّ يطعن في أصالته، يقف فن العيطة شامخاً، يقاوم محاولات التهميش والنسيان. إذ تخفُت أصوات المناشدين بحماية هذا التراث في أروقة المؤسسات الرسمية، وتغيب مبادرات التوثيق والدراسة، لكنَّ العيطة، كطائر الفينيق، تأبى إلا أن تنهض من رمادها، متحديةً كل محاولات دفعها إلى الظل والغموض. فهي ليست مجرد فنٍّ يُؤدَّى، بل هي روح الشعب، وذاكرته الحية التي تختزن عبق الماضي وعظمته.
إنَّ نداء العيطة اليوم يتردد صداه في كل ركنٍ من أركان المملكة، يستصرخ الضمائر الحية، ويستنهض الهمم النائمة. فهل من مجيبٍ لهذا النداء؟ هل من منقذٍ لهذا الفن الجميل من براثن النسيان والإهمال؟
إنَّ حماية العيطة ليست مجرد مسؤوليةٍ ثقافية، بل هي واجبٌ وطنيٌّ، وأمانةٌ تاريخيةٌ في أعناق كل مغربيٍّ غيورٍ على تراث أمته. وهنا تبرز أهمية تفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، الذي يجب أن يضطلع بدوره في حماية هذا الموروث. فمن مؤسسات الدولة إلى منابر الإعلام، ومن أروقة المراكز الثقافية إلى ساحات المهرجانات، يجب أن تحكي العيطة من جديد، قصص هذا الشعب وآماله، وتغني أمجاده وعراقته. فالعيطة ليست فقط تراث يُحفظ في المتاحف، بل نبضٌ حيٌّ يسري في عروق المغاربة، ونغمٌ خالدٌ يتردد صداه في أرجاء الزمان والمكان.
جلال مزيوني مهتم بالتراث الشعبي المغربي