نادية واكرار: من التدبير المرحلي إلى دوامة الأزمات: لماذا يفشل الإصلاح في المغرب؟

نادية واكرار: من التدبير المرحلي إلى دوامة الأزمات: لماذا يفشل الإصلاح في المغرب؟ نادية واكرار
القيادة ... هي القدرة على التأثير في الآخرين من خلال وسائل شرعية تعتمد على الحجة والإقناع والعقلانية، بعيدًا عن أساليب التحكم وشراء الذمم واستغلال نقاط الضعف، حيث يصبح الأفراد منخرطين بإرادتهم الكاملة في مشروع جماعي يتقاسمون أهدافه ويساهمون في تحقيقه بحماسة وصدق. بينما تعني الريادة امتلاك الإرادة الحرة والحازمة لتحويل الأفكار إلى مشاريع واقعية، وإحداث تغيير جذري في البناء والتنمية، ما يسمح للمجتمع بمواجهة التحديات بدل الخضوع لها، وتجاوز الأزمات بدل التكيف السلبي معها، بل والقدرة على صناعة الأحداث وفرض الرؤى وتوجيه مسارات المستقبل. غير أن التجربة المغربية بعد الانتخابات الأخيرة كشفت عن فشل ذريع في تحقيق هذين المفهومين، حيث أظهرت الممارسة السياسية أن غياب القيادة الحقيقية والريادة الفعلية يجعل كل الوعود مجرد شعارات فارغة لا تجد طريقها إلى التنفيذ، مما عمق أزمة الثقة بين المواطن والفاعل السياسي، وكرّس منطق التدبير المرحلي القائم على إدارة الأزمات بدل البحث عن حلول مستدامة.
 
لقد كانت الانتخابات الأخيرة لحظة حاسمة ومهمة بحيث كان من الممكن أن تؤدي إلى إعادة هيكلة المشهد السياسي وفق رؤية جديدة تستجيب للرهانات الحقيقية للمجتمع، غير أن ما حدث هو العكس تماما، حيث تمت إعادة إنتاج نفس الأنماط التقليدية في الحكم، بنفس العقليات ونفس الأساليب، دون أي تغيير جوهري في المنهجية أو في الأولويات. فلم يكن هناك أي مجهود لبناء مشروع سياسي متكامل يستند إلى مقاربة تشاركية تدمج مختلف الفئات، خاصة الشباب الذين يمثلون الفئة الأكثر تضررا من الأوضاع الحالية. فالسياسات المتبعة لم تستطع تجاوز الإشكالات الكبرى المرتبطة بالتنمية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، بل ظلت رهينة الحسابات السياسية الضيقة، حيث الأولوية ليست للمصلحة العامة، وإنما لتوزيع المناصب والمكاسب بين الفاعلين السياسيين الذين يتعاملون مع الدولة باعتبارها غنيمة.
 
لقد أدى هذا الفشل إلى تفاقم مظاهر الإحباط في أوساط واسعة من المجتمع، حيث بات واضحا أن النظام السياسي، بمؤسساته وأحزابه، عاجز عن تقديم بدائل حقيقية أو اتخاذ قرارات جريئة تنقل البلاد من وضعية التدبير المؤقت إلى بناء نموذج تنموي فعلي قادر على تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فالهوة بين الخطاب والممارسة أصبحت أكثر اتساعا، حيث يتم الترويج لخطاب الإنجازات والإصلاحات في وقت تتفاقم فيه الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتستمر السياسات الاقتصادية في إنتاج نفس الفجوات الاجتماعية والاقتصادية دون القدرة على إحداث تغيير ملموس في بنية الاقتصاد الوطني أو في تحسين مستوى عيش الفئات الهشة والمتوسطة.
 
لقد باتت السياسة في المغرب أقرب إلى لعبة مصالح  اكثر منها إلى آلية لخدمة المجتمع، حيث أصبحت الانتخابات مجرد محطة لإعادة إنتاج نفس النخب بل منهم نفس الوجوه، دون أي  جديد ولا تأثير حقيقي على الواقع. فلا توجد إرادة حقيقية للإصلاح، ولا رؤية استراتيجية واضحة، ولا قدرة على تعبئة الطاقات المجتمعية لخدمة مشروع تنموي متكامل. وما لم تتم مراجعة جذرية لهذا المسار، فإن المغرب سيظل يدور في حلقة مفرغة، حيث يتكرر نفس السيناريو مع كل استحقاق انتخابي: وعود كثيرة، وتوقعات عالية، ثم خيبات متتالية تعيد إنتاج الإحباط نفسه، مما يضع مستقبل البلاد أمام تحديات أكثر تعقيدا، في ظل مناخ إقليمي ودولي متغير يتطلب قيادة حقيقية قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية، وريادة فعلية تضمن تجاوز الأزمات بدل الوقوع في دوامة الأزمات المتكررة.
 
إن المغرب اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم بين إمكانية التغيير الفعلي والانزلاق نحو مزيد من التقهقر السياسي والاجتماعي. فقد أفرزت التجربة السياسية الأخيرة واقعا مرا يعكس تآكل الثقة في المؤسسات، وعجز النخب عن تقديم حلول حقيقية تتجاوز منطق التدبير الظرفي للأزمات. في الوقت الذي تتعالى فيه الخطابات حول التنمية والإصلاح، يظل الواقع يكشف عن اختلالات بنيوية تتفاقم يومًا بعد يوم، حيث تتزايد معدلات البطالة، وتتسع رقعة الفقر، وتتراجع جودة الخدمات الأساسية، بينما تظل القرارات المصيرية رهينة لمصالح فئوية ضيقة. السياسة التي كان من المفترض أن تكون أداة لتحقيق العدالة والتنمية، أصبحت لعبة متكررة يعاد فيها تدوير نفس الأساليب والوجوه، دون اكتراث حقيقي بمعاناة المواطن الذي أصبح يرى في الانتخابات مجرد مسرحية تنتهي بإعادة إنتاج نفس الأوضاع، وربما بأسوأ مما كانت عليه.
 
إن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في الفشل الاقتصادي أو الاجتماعي، بل في فقدان الأمل لدى الأجيال الصاعدة، التي لم تعد ترى في العمل السياسي وسيلة للتغيير، بل باتت تبحث عن خلاص فردي، سواء عبر الهجرة أو الانسحاب التام من الحياة العامة. وعندما تفقد الشعوب إيمانها بجدوى المشاركة، وعندما يصبح اليأس هو العنوان الأبرز، فإن أي مشروع وطني، مهما كان طموحا، سيكون مصيره الفشل. المغرب اليوم بحاجة إلى قيادة شجاعة قادرة على مواجهة الحقائق كما هي، وليس كما يتم تسويقها في الخطابات الرسمية. بحاجة إلى ريادة فعلية تستند إلى قرارات جريئة تعيد للمواطن كرامته، وتفتح له آفاقا حقيقية للمساهمة في بناء وطن يشعر فيه كل فرد بأنه جزء منه وليس مجرد متفرج على قرارات تتخذ باسمه دون أن يكون له فيها رأي أو تأثير. إن بناء المستقبل لن يكون ممكنا إلا إذا تمت مراجعة جذرية لطريقة تدبير الشأن العام، حيث تكون الأولوية للوطن والمواطن، وليس للمصالح الفئوية الضيقة، وحيث يصبح العمل السياسي وسيلة للإصلاح الحقيقي وليس مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة. فما لم يتم تصحيح هذا المسار، فإن المغرب سيظل رهينا بحلقة مفرغة من الأزمات و الخيبات، وسيظل المواطن المغربي يحمل نفس السؤال الذي بات يتردد على الألسنة أكثر من أي وقت مضى: إلى أين نحن إذا ذاهبون؟