وحيد مبارك: عصيان تلقيحي

وحيد مبارك: عصيان تلقيحي وحيد مبارك
«لا أثق في هذه الحقنة»، «تغرسون إبرة في جسم ابنتي وتتركوني لوحدي كي أعالجها وأنا لا أستطيع حتى توفير الأكل لها»، «قلنا لكم لا ثم لا للتلقيح» … هذه بعض من «تصريحات» لآباء وأمهات تجمهروا أمام مؤسسة تعليمية لإعلان حالة من «العصيان التلقيحي»، وتأكيد رفضهم لأحد المواقع الإلكترونية أن يتلقى أبنائهم اللقاح ضد مرض الحصبة، الذي تفشى في الأسابيع الأخيرة على نطاق واسع، بداعي الشك وعدم الثقة في مأمونيته، مع تشبثهم في الوقت نفسه بضرورة أن يتابع أطفالهم دراستهم حضوريا؟

لا يقف الأمر عند هذا الحد، فإلى جانب هذا المشهد تتعدد مشاهد الترويج لأخبار أخرى عن تسبب لقاح «بوحمرون» في وفاة عدد من الأطفال بشكل جماعي مباشرة بعد تلقيهم لجرعة منه في قرية من القرى، وهي الأخبار التي لا يعرف صحة وقوعها إلا الذين يروجون لها على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين أنه لا جهة من الجهات المختصة، سواء تعلق الأمر بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية أو الداخلية على علم بهذه «الوقائع الافتراضية»، التي تتطلب القيام بتحريات في شأن مصادرها والغايات منها؟

ترويج للإشاعات والأخبار المضللة على نطاق واسع، يبين على أن معركة ما تم الإعداد لها بشكل غير مفهوم ضد التلقيح، الذي أنقذ أرواح الملايين من الأطفال، وضمن المناعة والوقاية من الأمراض لشرائح عريضة من المواطنين، وساهم في تراجع جد كبير لمعدلات الإصابة بمرض الحصبة القاتل، حتى أصبح المغرب يسجّل بضع حالات معدودة، وهو ما دفع السلطات الصحية المختصة لمباشرة إعداد ملف متكامل للحصول على شهادة القضاء ما قبل النهائي على المرض، كما وقع سابقا حين حصل المغرب على شواهد تتعلق بالقضاء على عدد من الأمراض، من خلال جهود صحية قد لا تتعلق باللقاحات لوحدها، كمرض التراخوما المسبب للعمى نموذجا، أو تلك التي يكون للقاحات دور أساسي وفعال في القضاء عليها، كما هو الشأن بالنسبة لشلل الأطفال.
هذه الإنجازات الصحية التي تأتت بفضل جهود أجيال من مهنيي الصحة، خاصة الجسم التمريضي، الذي كان يعمل بكل تفان ووطنية في المداشر والجبال، ويتنقل بأبسط الوسائل في مواجهة عدد كبير من التحديات والإكراهات، هي اليوم بين قوسين، بسبب «تقاعس» البعض عن إيلاء عملية التلقيح الأهمية الضرورية من خلال التتبع والزيارات المنزلية التي كان يتم القيام بها سابقا، وغيرها من التفاصيل الأخرى، وبفعل موجة التشكيك التي تتسع دائرتها يوما عن يوم، حتى استطاعت أن تضع لقاحا أكد نجاعته وفعاليته على مدى أكثر من 40 سنة موضع شك واتهام بالتسبب في أضرار «مفترضة» لم تسجل في أي وقت من الأوقات.
إن التخوف اليوم من هذا «العصيان التلقيحي» لا يقف عند حدود ما يرتبط ببوحمرون، فقد تتسع دائرة هذا الرفض لتشمل اللقاح المضاد للسل ( بي سي جي )، وقد تطال لقاحات أخرى أساسية تهم أمراض الدفتيريا والكزاز والسعال الديكي المعروف بـ «العواية» وغيرها، وتداعيات هذا الأمر لن تقف عند حدود ما هو فردي، أي ما يخص الأسرة الصغيرة التي قد ترفض تلقيح رضيعها أو طفلتها، بل قد يكون له تأثير جماعي من خلال انتشار العدوى، لأن من يطالب اليوم بمتابعة الدراسة حضوريا وهو غير ملقح ضد المرض في حال تعرضه للعدوى سينقلها للمحيطين به من غير الملقحين هم أيضا، في البيت والمدرسة والشارع، وسنكون أمام معضلة بكلفة صحية واقتصادية واجتماعية متعددة الآثار.
هذا الوضع المحتقن، الذي جعل البعض يتصدى لحضور طاقم تمريضي في مؤسسة تعليمية ظهرت فيها حالة إصابة بالحصبة مخافة تلقيح أبنائهم دون موافقتهم؛ وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم مادامت خطوة التلقيح هي مشروطة بالموافقة الأبوية؛ بل أن عددا من المعنيين هددوا الممرضات بتعنيفهن مما دفع إلى تهريبهن، يجعل وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والحكومة بكل مكوناتها مدعوة للخروج والتواصل المكثف والمباشر مع المواطنين بخطاب واضح، بسيط وشفاف، لتدارك ما فات، ليس على مستوى اللقاح فقط، بل كذلك عل مستوى ما يتعلق بما تم هدره من زمن الثقة، ومن تواصل تم تغييبه لسنوات، أدى إلى ما نعيشه اليوم.
هذا التواصل يجب أن يكون الإعلام بكافة مكوناته حاضرا فيه بقوة كذلك، ومعه جمعيات المجتمع المدني، لأن الجميع معني بالتواجد في جبهة ضد التشكيك وضد استمرار تفشي الأخبار الزائفة والمضللة المهددة للأمن الصحي للمجتمع، ويتطلب المقابل من عدد من المسؤولين أن يتحملوا مسؤوليتهم الكاملة في القيام بمهامهم الموكولة لهم، وفي التواصل وتزويد نساء ورجال الإعلام بالمعلومات المطلوبة والإجابة عن الاستفسارات، لأنه من غير الطبيعي بتاتا أن يظل البعض وفيا لنهج «الصمت» والتواصل بمنطقه الخاص به، وترك الأسئلة الموجهة إليه معلقة في رسائل الهواتف دون جواب، فهذا ينمّ عن عدم احترام للمسؤولية التي يتحملها وتبخيس للأمانة الملقاة على عاتقه!