لم يكن قرار اللجوء أمرا هينا لشاب مثلي فتحت له أبواب الدولة على مصراعيها، وتمكن من الوصول إلى أهم مراكز القرار في البلاد، وخبر عن قرب معنى الرفاهية التي توفرها الدولة العميقة لخداعها من الشبان النجباء..
لست من أولئك الذين تستهويهم المناصب القيادية ولا الأضواء الإعلامية، ولكنني كنت طالبا لامعا ومتفوقا ونابها، ولذلك صوب المتحكمون في رقاب الجزائريين نظرهم نحوي وقدموا لي العروض المغرية لأي شاب مثلي..
واندمجت معهم في مهمات كنت أحسب أنها لأجل أمن وسلامة الجزائر قبل أن أكتشف مع توالي الأيام أنني لست إلا مجرد خادم من أجل تأمين مناصب ومغانم لجنرالات لا يهمهم أمر البلاد والعباد إلا بمقدار ما يضمن لهم ولأبنائهم الراحة والاستقرار.
لم يطل بي العهد في عملي مع جهاز المخابرات الجزائرية كثيرا، فسرعان ما تبين لي بالواقع الملموس أنني لم أكن أقدم خدمة للوطن بقدر ما كنت أخون الوطن لجهة الإسهام في عرقلة الوطنيين على تقديم ما ينفع البلاد والعباد..
ومما زاد من قناعاتي بضرورة مغادرة مهمة الاستخبارات حجم الفظاعات التي عايشتها في فترة تاريخية حاسمة من تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، وأعني بها مرحلة ما بعد أكتوبر 1988 في عهد الشاذلي بن جديد رحمه الله، والدخول في المسار التعددي الذي تصدرته يومها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد ان اجتاحت قوائمها صناديق الاقتراع..
كانت علاقاتي في اغلبها قريبة من القيادات الاسلامية، كما كنت على صلة بملفات أخرى لها صلة بالعلاقات الخارجية ومنها العلاقة مع المغرب.. وفي القلب من هذه الملفات جميعا تعيش الجزائر بتاريخها الناصع الذي رضعناه منذ الصغر، ونشأنا عليه جيلا بعد جيل..
إلا ان التجربة أثبتت لي غير ذلك، فالجزائر الفكرة والوطن هي شيء آخر غير الذي ينفذه هؤلاء على الارض، مكر وكيد وتآمر بالليل والنهار تحت يافطة الوطن بينما المكاسب شخصية لا علاقة لها بتنمية الأوطان وحمايتها..
الثاني من فبراير من كل عام هو عيد ميلاد سنوي أحتفل به، لأنه اليوم الذي اخترت فيه أن أعيش للجزائر الحرة التي جاهد من أجلها آبائي وأجدادي لتكون منارة للحرية والكرامة وليس مصدرا للمكر والتآمر على أبنائه وجيرانه.. ضاقت بي دروب الفعل في بلادي فاخترت المنفى وفاء لبلدي وتاريخه الناصع..
يسألني صاحبي: ها قد فارق والدك ثم والدتك الحياة ولم يبق لك في الجزائر غير الذكريات، فما الذي لا يزال يربطك ببلادك؟
جوابي هو: العمل من أجل تخليص الجزائر المختطفة من طرف عصابات مافيوية هو حلم شريف ونبيل لا يقل شرفا ونبلا عما قام بها أجدادنا يوم قاوموا الاستعمار الفرنسي ودفعوا دماءهم وأرواحهم مهرا لذلك.. هذا هو ذاته ما أقوم به منذ ربع قرن، وأنا على قناعة تامة بأن الفجر قريب، وأننا على أعتاب شروق شمس الحرية في الجزائر..