في هذا الموقع الشاهق بعلو 92 مترا، وعلى أنقاض الحصن العسكري المعروف ب " قصر نيس"، chateau de Nice، ستكتسب مدينة نيس شهرتها كإحدى أفضل الوجهات السياحية في العالم، بدليل أنه تم تسجيلي مساء يوم الأحد 26 يناير 2025، ضمن 1.200.000 سائح يزور هذا الحصن العسكري كل عام.
فبتاريخ 4 يناير 1706 دكت جيوش الملك لويس 16( آخر ملوك فرنسا قبل قيام ثورة 1789)، "حصن نيس" الذي صمد في وجه كل الغزاة والهجومات العسكرية بين الممالك والفيوداليات الأوربية منذ بنائه في القرن 11.
الملك لويس 16، لم يستسغ إذلاله من طرف مملكة سردينيا( مهد الدولة الإيطالية الحديثة)، التي كانت تحكم من مدينة توران إلى مدينة نيس، فحاصر المدينة لمدة أربعة أشهر إلى أن استسلمت له. وبالنظر لكون "قصر نيس" كان يرمز للسلطة السياسية والعسكرية لمملكة سردينيا، أمر لويس 16 بتفجيره ونسفه، وهو ما أدى إلى ردم الوظيفة العسكرية لمدينة نيس كأحد أهم الأقطاب الحربية في البحر المتوسط.
لكن سرعان ما انبعثث مدينة " نيس" من الرماد مع مطلع القرن التاسع عشر، بإشهار وظيفة أخرى وجديدة للمدينة. إذ بدل أن تنشغل بإحياء أمجادها الحربية في الحصون والقلاع العسكرية، اختارت مدينة "نيس" أن تمنح لنفسها وظيفة جديدة، ألا وهي الوظيفة السياحية من الطراز الرفيع بالتركيز على استقطاب العائلات الأوربية الميسورة والغنية.
ففي شهر ماي 1822، قام الملك "شارل فيليكس" بإهداء العقار العسكري الحاضن ل "قصر نيس" البالغ مساحته 19 هكتارا، إلى البلدية، لتجعله منتزها لسكان المدينة، خاصة وأن العقار يوجد في موقع استراتيجي جد مرتفع يمنح المرء رؤية بانورامية ليس على خليج الملائكة( خليج ساحل نيس) فقط، بل ويعطي رؤية بأبعاد 360 درجة للمدينة كلها ولكل مرافقها الاستراتيجية(خاصة الميناء والمطار).
هذه الهدية الملكية شكلت منعطفا في تاريخ مدينة نيس، بل وفي تاريخ ساحل "الكوت دازير" بجنوب فرنسا برمته، بحيث قررت المدينة إدماج تهيئة منتزه Chateau de Nice، مع مشروع تهيئة الساحل ككل. واستغلت المدينة شهرتها لدى العائلات الأريستقراطية الإنجليزية التي كانت تتوافد على مدينة "نيس" كل فترة خريف وشتاء، للاستمتاع بلمناخ المتوسطي المعتدل والهواء النقي، هربا من البرد القارس بأنجلترا. وفي 1832 اعتمدت بلدية نيس خطة جذرية لإعادة تأهيل منتزه البحر وتوسيعه، وتم تغيير اسمه باسم "ممشى الإنجليز" (Promenade des Anglais)، وفاء للسياح البريطانيين الذين يقصدونه بكثافة.
بعد تنازل "مملكة سردينيا" عن مدينة نيس لصالح فرنسا عام 1860 ( مقابل أن يساندها نابوليون الثالث في مجهود تجميع وتوحيد المماليك الإيطالية تحت راية دولة واحدة، وكذا في مواجهة النمسا)، بادرت سلطات المدينة إلى اعتماد مخطط آخر لتجديد الساحل البحري وإعادة توسيعه من جديد مع إعادة تهيئة "قصر نيس"، خاصة بعد أن ذاع صيت "نيس" لدى العائلات الأريستقراطية الأوربية( خاصة الروسية)، كوجهة سياحية مجهزة وآمنة.
ونظرا لمكانة هذا الحصن/ المنتزه، قررت فرنسا تصنيف الموقع كموروث ثقافي وتاريخي عام 1935. بالمقابل أحدثث بلدية نيس مديرية للتراث في الهيكلة الإدارية، تعد من أهم المديريات في المدينة بالنظر للموارد المالية والبشرية التي يوفرها المنتخبون لها من جهة، وبالنظر للتعاقدات المبرمة بين البلدية والجامعات الفرنسية ( خاصة شعب التاريخ والأركيولوجيا)، لتطعيم مديرية التراث بالأبحاث والخبرة والاستشارة في كل ما يهم تهيئة وصيانة وتسويق المآثر والمنتزهات التاريخية والساحلية بالكوت دازير من جهة أخرى.
الدليل على قدسية موقع "قصر نيس"، أن البلدية برمجت في المدة الأخيرة اعتمادا ماليا مهما قدره 16 مليون أورو (حوالي 17 مليار سنتيم)، لإعادة تهيئة المنتزه المذكور، وذلك في إطار خطة أكبر وأشمل بغلاف 75 مليون أورو للتجديد الحضري وتأهيل المدينة( أي أن المنتزه ابتلع 21% من مجموع الغلاف المالي)، استعدادا لاستضافة "نيس" لمؤتمر المحيطات أيام 9\13 يونيو 2025، والذي قررت الأمم المتحدة تنظيمه بشكل مشترك في فرنسا وكوستاريكا في الفترة المذكورة، وهو المؤتمر الذي سيعيد الأمجاد البحرية لمدينة نيس، لكن ليس في الشق العسكري، بل لتكريس أمجادها في الشق السياحي وريادتها في موانئ الترفيه وتألقها في علوم البحر وفي الرياضات البحرية وفي الأوراش البحرية.