وهو محق في ذلك، إذ رغم المجهود الذي بذل لانتشال أزيد من 120 مليون أمريكو لاتيني من الفقر بعد ردم الديكتاتوريات العسكرية بدول هذه القارة( 28 مليون منهم انتشلوا من الفقر بالبرازيل لوحدها)، فإن الفوارق مازالت صادمة ومؤلمة، والملايين من سكان دول القارة مازالوا خارج رادار الخدمات الصحية ويعانون من سوء التغذية، ومازالت مجالات ترابية واسعة محرومة من بنيات جامعية ورياضية وثقافية، فضلا عن كون فئة واسعة من شعوب المنطقة لم تنعم بعد بقطف ثمار الثروة ولو بالتوصل بفتاتها الذي يضمن الحد الأدنى من الكرامة.
وددت استحضار هذا المعطى لتسجيل تحفظي على بعض الأصوات السياسية بالمغرب التي بدأت تنهض للتبشير بوجاهة نموذج أمريكا اللاتينية وتسويقها لحاجة المغرب إلى وجوب اقتباس هذا النموذج لردم الهوة السحيقة بالمغرب بين المجالات الترابية وبين الفئات الاجتماعية.
والحال أن الاستشهاد بمؤشر "جيني" ( Gini)، وهذا فقط مؤشر واحد ، يبرز إلى أي حد أن مجمل دول أمريكا اللاتينية لم "تقطع الواد وينشفو رجليها" بخصوص تحقيق دولة الرفاه، أو على الأقل دولة "العدالة الاجتماعية" في حدها الأدنى. ويكفي قراءة المشهد من المكسيك إلى الشيلي، ومن كوستاريكا إلى فينزويلا، ومن البرازيل إلى كوبا، ومن الباراغواي إلى كولومبيا، ومن السلفادور إلى الأرجنتين، ليقف المرء على مدى الأشواط الطويلة التي مازالت دول القارة اللاتينية مطالبة بحرقها لتحقيق الإنصاف الترابي من جهة وتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة ثانية.
أما إذا أضفنا الكلفة السياسية والأمنية التي مازالت تتحمل فاتورتها معظم دول المنطقة اللاتينية بخصوص طي "سنوات رصاص ديكتاتوريات العسكر"، وما ينجم عن ذلك اليوم من شد الحبل بين مختلف المكونات وتجاذب أطراف الحقل السياسي بدول أمريكا اللاتينية في ردم هاته الحقبة من عدمه، آنذاك نعي ثقل الحمل والمسؤولية.
خلاصة القول..من حق النخب السياسية المغربية استلهام التجارب الدولية ( بأمريكا اللاتينية أو بآسيا أو بدول الشمال)، بخصوص اعتماد أفضل السبل لتحقيق توزيع عادل نسبي للثروة ( مجاليا واجتماعيا)، لكن عاش من عرف قدره، و"مدد رجليه على حساب غطاه". فالحق واضح وتسويق الوهم فاضح.
ومن كانت نيته صادقة في إعادة توزيع الثروة بشكل عادل نسبيا بالمغرب، ندعوه إلى اعتناق المدخل المقدس، ألا وهو التساؤل عن من كانت له المصلحة في إقبار المجلس الأعلى لإعداد التراب الوطني بالمغرب ووأده في المهد عام 2004، ومن كانت له المصلحة في إقبار توصيات النقاش الوطني حول إعداد التراب الوطني.
فمن العار، ونحن في القرن 21، أن نعاين مجالات ترابية واسعة تضم حوالي 12% من سكان المغرب ( جنوب المغرب الشرقي والشريط الجبلي مثلا)، تمد المغرب بمصادر الثروة ولا تنعم حتى بشبكة طرقية آمنة، فأحرى التوفر على مستشفيات مجهزة وجامعات في المستوى ودخلا فرديا يؤمن "السميك" الأدنى من الكرامة الآدمية.
خارج هذه المعادلة، سنكون عرضة لمؤامرة جديدة اسمها: "تهريب النقاش حول استيراد نماذج إعادة توزيع الثروة"، بعد أن عانى المغاربة من مؤامرة قديمة اسمها "تصدير وتهريب الثروة إلى بنوك وعقارات سويسرا وفرنسا و اللوكسمبورغ وإسبانيا..."