رغم «الاهتياج الديبلوماسي» الكبير الذي يعتنقه العسكر الجزائري من أجل ترجيح كفة صنيعتها البوليساريو في نزاع الصحراء منذ أكثر من نصف قرن، تمكن المغرب بوسائل ديبلوماسية قوية وهادئة من توسيع دائرة الاعتراف بسيادته على أقاليمه الجنوبية. إذ وصل عدد الدول التي تؤيد مقترح الحكم الذاتي إلى أكثر من 110 دولة، كما تواصل سحب الاعتراف الدولي بالبوليساريو، إذ انخفض عدد الدول الداعمة لهذا الكيان الوهمي بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بل وفقًا لمصادر متعددة، فإن أكثر من 50 دولة، خاصة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد سحبت اعترافها بالبوليساريو (انظر اللائحة في ص: 5، في أسبوعية " الوطن الآن").
هذا التحول في مواقف مجموعة من الدول يعود لعدة أسباب كلها تعكس جهود المغرب لاستعادة الدعم الدولي لقضيته وتوسيع دائرة اعترافات السيادة على الصحراء المغربية، كما تعكس المسعى الواقعي لحل النزاع على أسس قانونية وسياسية وديبلوماسية تتمتع بالمصداقية. إذ تمكن المغرب من تعزيز علاقاته الدبلوماسية مع العديد من الدول، وخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية اللتين تعتبران «قصر الفولاذ» الذي راهن العسكر الجزائري، بماله ورشاويه وتحالفاته، على عدم إمكانية اختراقه. ذلك أن العديد من هذه الدول انتبهت إلى التحولات الجيوسياسية، في المحيط الإقليمي أو الدولي، فأقدمت على إعادة النظر في مواقفها التقليدية بشأن قضية الصحراء، وفي موقفها من «عصابة الجزائر» التي دأبت على التعامل معها بمنطق استعلائي يضرب سيادتها في الصميم، والتي كان لا يهمها سوى توسيع نفوذها السياسي والعسكري والجغرافي أيضا من أجل التحول إلى «إمبراطورية لا تقهر» (القوة الضاربة)، حسب ما روج له طويلا المقيمون في قصر المرادية.
لقد نجحت «القوة الناعمة» التي يمثلها المغرب في الإطاحة بـ «القوة الضاربة»، التي يزعمها العسكر الجزائري، في أكثر من مكان. وكانت الضربة القاصمة التي تلقاها الجزائريون هي عودة الرباط إلى الاتحاد الإفريقي من الباب الكبير في 2017، فيما كان الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء في دجنبر 2020 هو آخر إسفين دق في «نعش تبون وشنقريحة». أما الاعتراف الإسباني والفرنسي، فكان بمثابة ترحم مزدوج على عنتريات العسكر الذي كان يردد «اللهم اسقنا من بركات السماء، وأنبتنا من بركات الأرض».
فمنذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وسع المغرب من مبادراته، ونجح في كسب مزيد من الاعترافات من دول كانت قد اعترفت بالبوليساريو في وقت سابق، بينما استمر في الضغط على الدول التي تدعم الجبهة الانفصالية على الساحة الدولية، وكان هذا واضحا في الخطاب الملكي بتاريخ 20 غشت 2022 (الذكرى 69 لثورة الملك والشعب): «إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات». وبالفعل، فقد نجح المغرب في تحريك «الديبلوماسية العامة» «السياسية والاقتصادية والرياضية والدينية والأمنية والعسكرية»، مما أدى إلى تعزيز علاقاته الدولية، وتزايد الدعم لقضيته الوطنية، ولمقترح الحكم الذاتي بوصفه حلا سياسيا وتفاوضيا شاملا لتحقيق تسوية دائمة ومستدامة.
مقابل هذا الدعم الكبير لمغربية الصحراء، فإن الجزائر والبوليساريو تواجهان انحسارا جارفا في موقفهما الحجري من النزاع، كما تتكبدان الخسائر تلوى الأخرى في معاقلهما التقليدية، إذ تصران على حل غير واقعي «الاستفتاء على تقرير المصير» في وقت تميل الدول الكبرى إلى الحل السياسي التوافقي. ومما يزيد حالة الإرباك الذي يعيشه العسكر الجزائري هو التحدي الداخلي بسبب الاحتجاجات الشعبية «الحراك الجزائري» التي طالبت بإصلاحات ديمقراطية، فضلا عن المشاكل الاقتصادية رغم عائدات النفط والغاز، مما أثر على قدرتها على توجيه استثمارات في الدبلوماسية وتوسيع دائرة نفوذها؛ ناهيك عن الأزمات الأمنية التي تعيشها مع محيطها الإقليمي الذي يتميز بالهشاشة، والتحول الكبير الذي عرفته النخب الحاكمة في العديد من الدول.
ويرى مراقبون أن استمرار المغرب في الدفع باتجاه تغيير مواقف الدول الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية قد يسهم في تعميق الدعم لقضيته، بل قد يؤدي في لحظة ما إلى طرد البوليساريو من الاتحاد الإفريقي، رغم ما قد يعتري هذا المسعى من تحديات قانونية وسياسية، خاصة أنه يتطلب توافقًا واسعًا بين الدول الأعضاء داخل الاتحاد الإفريقي «أكثر من ثلثي الأعضاء». كما يتطلب بناء تحالفات استراتيجية مع الدول الإفريقية الكبرى، فضلا عن دعم علاقاته الاقتصادية مع دول غرب إفريقيا «تشاد، النيجر، مالي، السينغال، بوركينافاصو، موريتانيا، البنين.. إلخ»، وذلك من أجل فك الطوق الجزائري، من خلال مشاريع تنموية ومبادرات اقتصادية تنهي التوترات الداخلية، من قبيل المبادرة الأطلسية وخط الغاز «نيجريا- المغرب».
إن إنهاك العسكر الجزائري ديبلوماسيا سيؤدي، حتما، إلى تحول جذري في السياسة الخارجية الجزائرية، مما قد يعزز من فرص فرض التسوية السلمية أو حتى التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف بشأن قضية الصحراء. غير أن هذا المسعى يتطلب خوض العديد من التحديات، كما يتطلب نجاح الجزائريين في تغيير القيادة الجزائرية الحالية، وفرض عودة الجيش إلى الثكنات، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية. ذلك أن أي قيادة ديمقراطية سياسية مدنية قد تبحث عن حلول أكثر توافقية بدل سياسة الابتزاز، سواء مع المغرب أو على الجوار الإقليمي، مما من شأنه فك العزلة الإقليمية والدولية المتزايدة على الجزائر.
إن سحب الاعتراف بالبوليساريو بهذه الوتيرة المتسارعة والمتصاعدة منذ عام 2000، رغم أن معاكسة المغرب أصبح ثابتا سياسيا لدى حكام الجزائر، ينبئ عن شيء مهم، ألا وهو أن المواقف تتغير مع مرور الوقت، خاصةً في ظل التأثيرات الدبلوماسية والمواقف الدولية التي قد تؤثر على قرارات الدول في المنطقة، وهو ما يستدعي الحسم في إعادة بناء شبكة علاقات قوية مع العديد من الدول الإفريقية، واستغلال اللحظة الراهنة من أجل القضاء بشكل نهائي على كيان وهمي اسمه البوليساريو.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"