وإذا كان من المفهوم والمبرر سياسيا في بداية الاستقلال أن يتولى عسكري قيادة الجزائر، طالما أن الجيش الوطني الشعبي الجزائري قدم نفسه كوريث لجيش التحرير الوطني، الذي قاد حربا ضروسا وتاريخية ضد الاستعمار الفرنسي ودفع ثمن ذلك باهظا، فإن التحولات الداخلية والإقليمية والدولية التي طرأت على الجزائر والمنطقة والعالم، تجعل من قدرة الجيش في الجزائر على الاستمرار في قيادة البلاد أمرا في غاية الصعوبة..
لا شك أن كل ما تقدمه وسائل الإعلام الرسمية، المملوكة للدولة وفي الجوهر للعسكر، يقول إن القدرات العسكرية الجزائرية كفيلة ليس فقط بحكم الجزائر وحماية حدودها، بل والرد على أي طارئ أمني داخلي أو خارجي يستهدف نظام الحكم أو تغيير هيئة الدولة..
ويقدم الجيش الجزائري نفسه كأحد أبرز الجيوش في المنطقة العربية والإفريقية، من حيث أنه يقوم بتطوير مستمر لقدراته العسكرية ويعتمد على مزيج من التدريب العالي، ويقوم بالتحديث المستمر للمعدات، والاستفادة من الموارد المالية التي يوفرها الاقتصاد الريعي القائم على صادرات النفط والغاز، وهذه الأموال وإن كانت ميزة لأنها توفر التمويل المطلوب للمؤسسة العسكرية، لكنها تحولت إلى نقطة ضعف جوهرية، وخلقت أجنحة من المستفيدين وغضبا لدى القطاع العريض من أبناء هذه المؤسسة الذين يعيشون كما غالبية الشعب الجزائري ظروفا اقتصادية صعبة..
ومع أن الجيش الجزائري يضم أكثر من 130,000 جندي نشط، مع قوات احتياط تقدر بحوالي 150,000، بالإضافة إلى قوات الدرك الوطني (الأمن شبه العسكري)، التي تعدّ قوة كبيرة موازية، كما تقول الأرقام.. وعلى الرغم من التدريبات التي يخضع لها منتسبو المؤسسة العسكرية في الداخل والخارج، فإن فاعلية هذه القوات لم تظهر إلا في العشرية السوداء التي أعقبت الانقلاب على صناديق الاقتراع في تسعينيات القرن الماضي، وخلفت نصف مليون قتيل ومئات الآلاف من المفقودين..
وعلى الرغم من أن الجيش برر حربه تلك بأنها كانت ضد الإرهاب والتطرف، إلا أن التجربة على الأرض بينت أن الأمر لم يكن يتعلق بالإرهاب في حد ذاته، وإنما بالبحث عن مبرر لضمان انفراد العسكر بقيادة الجزائر والتحكم في ثروتها.. ثم جاءت رياح الربيع العربي لتبعث الأمل بالتغيير مجددا في الجزائر، فنشأ حراك سلمي أبهر العالم وتمكن في أشهر قليلة من الإطاحة بحكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وأربك المؤسسة العسكرية، التي انحنت للعاصفة وعملت على استباق التداعيات المحتملة للحراك فقادت انقلابا من داخلها لم تتوقف تفاصيله حتى يوم الناس هذا..
هدأت رياح الحراك على الأرض وفقا لمنطق القوة العسكرية الغاشمة، التي تحولت في ظلها العاصمة إلى ثكنة عسكرية، لكن المؤسسة العسكرية بواجهاتها المدنية لم تقدم الجواب السياسي والاقتصادي على أسئلة المرحلة، واستمرت قوارب الموت تحصد أرواح المئات من خيرة شباب الجزائر بعدما انسدت أمامهم آفاق التنمية بمختلف مستوياتها الاقتصادية والسياسية.
تقول الأرقام العسكرية أيضا، إن الجيش الجزائري يمتلك ترسانة ضخمة من الدبابات والمدرعات والمدفعية والطائرات المقاتلة، والمروحيات ونظام الدفاع الجوي المتطور وغواصات وفرقاطات وكورفيتات وصواريخ بحرية، بالإضافة إلى قوات من النخبة التي تتمتع بتدريب عالٍ ومعدات متطورة، وتركز على مكافحة الإرهاب والعمليات الخاصة، لكن كل هذه الأرقام امتلك نظام بشار الأسد في سوريا أضعافها، وكانت وراءه دولتان قويتان في العالم وهما روسيا وإيران، ولكنه انهار في الأخير، وتلاشت قواته العسكرية في لمح البصر، لسبب بسيط، وهو أن هذه القوات وجدت نفسها تقاتل ليس من أجل الوطن وإنما من أجل مصلحة عائلة فاسدة تقتات من دماء السوريين.. تماما كما هو حال غالبية منتسبي المؤسسة العسكرية الجزائرية الذين هم وقود لمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وإنما من أجل أن يستمر قادة المؤسسة العسكرية وعائلاتهم يتمتعون بعائدات ثروات الجزائر لا غير..
وأفضل دليل على ما أقول ما يجري في الجارة مالي التي تدربت مجموعاتها العسكرية في الجزائر قبل أن تتحول إلى تهديد فعلي لأمن الجزائر واستقرارها، وقبلها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي هدد بالسيطرة على الحدود الليبية الجزائرية..
الجيوش قد تتمكن من إدارة الدول في حالات الطوارئ والاستثناءات لكنها لا يمكنها أن تستحيل إلى قيادة دائمة بديلا عن مؤسسات المجتمع المدني.. وهذا يعني أن الاستمرار في تسويف مطلب إعادة هيكلة العلاقة بين الجيش والمجتمع المدني، وتعزيز مؤسسات الدولة، وتنويع الاقتصاد، وتطوير ثقافة سياسية تدعم الديمقراطية، ليس إلا إضاعة للوقت واستمرارا في الدفع بالبلاد إلى الهاوية.