1- تُعد المؤسسة الملكية والمؤسسة الدينية الركيزتين الدائمتين في تاريخ الأمة المغربية وواقعها السياسي والاجتماعي، حيث تتجسد فيهما قيم الاستمرارية والاستقرار. فالمؤسسة الملكية بصفتها رمز وحدة الأمة وضامنة استقرارها، لطالما لعبت دورًا محوريًا في حماية الهوية المغربية وتأمين التوازن بين ثوابت الشريعة ومتطلبات التحديث، فهي ليست مجرد إطار سياسي، بل قوة راعية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتحمل مسؤولية ضبط مسار الإصلاحات الكبرى بما يحقق المصلحة العامة ويصون وحدة المجتمع. أما المؤسسة الدينية، فهي الحاضنة الشرعية والقيمية التي تمد المجتمع بإطار فقهي ومنهجي يراعي التطور الواقعي، مع الالتزام بثوابت الدين الإسلامي، دون أن نهمل نوعا من ضعف حضورها مقارنة بالأزمنة الماضية، ولكن هذا لا يلغي حقيقة كونها مؤسسة دستورية بغض النظر عمن هم يعملون داخل اختصاصاتها.
في هذا السياق، ودون حكم استباقي بالقبول أو الرفض، تُعد التعديلات الجديدة على مدونة الأسرة نموذجًا عمليًا للتكامل بين المؤسستين، حيث تمثل المؤسسة الملكية سلطة التوجيه والإشراف، بينما تُقدم المؤسسة الدينية الإطار الشرعي والمرجعية الفقهية، وهو يعكس رؤية استراتيجية تتجاوز الصراعات السياسية والأيديولوجية، ليُقدم للمجتمع نموذجًا متوازنًا حسب الممكن يُلبي احتياجات العصر دون التفريط في القيم الأصيلة. إن النقد الموجه لهذا التكامل يغفل حقيقة أنهما المؤسستان الأكثر رسوخًا في الحفاظ على استقرار المجتمع المغربي، وأن تعاونهما كان ولا يزال الضامن الأساسي لتحقيق الإصلاحات الضرورية في انسجام تام مع الهوية الوطنية والثقافية، دون أن نغفل أن عددا من الاتهامات ليس إلا مشاحة سياسية فقط، ودون أن نغفل من باب الإنصاف أن قاعدة عدم العصمة.
2- لسنا بصدد الدفاع عن المؤسسة الدينية، لكن الحديث عنها بوصفها جهة تمارس "الانبطاح" أو "العبث الديني" يكشف عن توظيف اختزالي يفتقر إلى الأسس المنهجية، إذ هذه الانتقادات في عمقها تعكس صراعًا على المرجعية، لا علاقة له بجوهر الأداء المؤسسي بقدر ما يرتبط برؤى أيديولوجية تسعى إلى تهميش دورها في صيانة التوازن المجتمعي، ومن الواجب أن المؤسسة الدينية، بحكم طبيعتها، ليست طرفًا في جدل سياسي أو فكري، لكنها إطار مؤسسي يشتغل ضمن ضوابط شرعية ودستورية ومجتمعية، وهو ما يجعل هذا النوع من الانتقادات أقرب إلى أحكام عاطفية تخدم سياقات خارجة عن النقاش العلمي. ثم إن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا ليس عن المؤسسة نفسها، بل عن قدرة الطرح النقدي على تقديم بديل حقيقي لها، فإذا كانت المؤسسة الدينية تنطلق من أصول معرفية وقيمية محددة، فإن مواجهة أدائها يجب أن تكون عبر منهجية قائمة على تفكيك معطياتها وتحليلها، لا عبر الاتهامات المرسلة، واختزال النقاش في أشخاصها يحجب الحاجة إلى نقاش عميق حول قضايا الأسرة والمجتمع، ويحول الإصلاحات إلى مساحة تجاذب فكري عقيم يستهلك الزمن دون تقديم حلول حقيقية.
3- استغلال التيارات الأيديولوجية، سواء الدينية أو غير الدينية، لقضايا الأسرة المغربية يُعدُّ مقامرة مكشوفة بمصير المجتمع واستقراره، يكشف عن ضيق أفق وخطورة في التفكير. هذه التيارات لا تتعامل مع الأسرة ككيان إنساني يحتاج إلى حماية وتعزيز، بل كأداة لتحقيق مكاسب سياسية وإيديولوجية قصيرة النظر. من جهة، نجد تيارات دينية تُوظّف الخطاب الشرعي لفرض رؤى متشددة تُغلق أبواب الاجتهاد وتُصادر حق المجتمع في التحديث المتزن، متجاهلة أن الشريعة لم تُصَمَّم لتكون مطرقة تُستخدم ضد التطور الإنساني. ومن جهة أخرى، نجد تيارات غير دينية تسعى إلى تفكيك الهوية الثقافية للمغاربة من خلال الترويج لنماذج غريبة عن سياقهم، وجرّ النقاش نحو ثنائية مغلوطة: إما الحداثة المطلقة أو الجمود المطلق..
4- لقد أصبحت قضايا الأسرة المغربية، مثل التعليم وحقوق المرأة، محط صراع يعكس تنازع رؤى أيديولوجية متعارضة، ما يؤدي إلى طغيان المصالح السياسية أو الحزبية على المصلحة العامة. ومع أن هذه القضايا تمثل محاور حساسة لأي مجتمع، فإن التعامل معها بمنطق المزايدات يُضعف القدرة على بناء حلول عملية ومستدامة. ما يغيب عن هذه الصراعات هو سؤال المسؤولية: من يدفع ثمن هذا الاستقطاب؟ الأسرة المغربية نفسها، التي تتآكل بين شد وجذب لا هدف لهما سوى الاستعراض الإيديولوجي. التعديلات التشريعية ليست سلاحًا لطرف أو مكسبًا لآخر؛ إنها ضرورة للحد من هذا الانفلات. حماية الأسرة ليست شعارًا يُرفع، بل موقف عملي يحميها من أن تكون أداة في معارك الآخرين. المسؤولية الآن ليست عن تقديم إجابات ترضي الجميع، بل عن اتخاذ خطوات توقف هذا الانحدار وتحفظ الأسرة من أن تكون ضحية جديدة في نزاعات بلا أفق.